حكم انتفاع المزكي من زكاته
حكم دفع الزكاة على من ينتفع ببذلها له دفع مذمة، أو يقي بها رأس ماله، أو تعود عليه بالمنفعة.
فمثلاً: من دفع زكاته لفقير أجنبي لكي يسدد الدين الذي لولده عليه، أو دفع لعامله الزكاة غير أجرته ليخلص له في العمل، أو دفعت المرأة الزكاة لزوجها الفقير لينفق عليها منه، ونحو ذلك.
1 - لا شك أن دفع الزكاة لله خالصة لا يقصد بذلك إلا الأجر الأخروي، أعظم في الأجر، ومنه قصد الزكاة والصلة.
قال أحمد عن سفيان بن عيينة كانوا يقولون: لا يحابي بها قريباً ولا يدفع بها مذمة ولا يقي بها ماله.
2 - وأما إذا قصد بالزكاة الغرض الدنيوي فقط، فقد جعل عمل الآخرة من أجل عمل الدنيا، وهذا لا يجوز - كما سبق- لقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
3 - وأما من قصد بدفع الزكاة الأجر الأخروي، وأشرك معه غرضاً دنيوياً لا مدرك له، فإن هذا جائز وينقص من الأجر بقدر ما قصده من الدنيا.
والقاعدة: تشريك من لا مدرك له يجوز، وتشريك من له مدرك لا يجوز - وقد سبقت في القواعد-. وذلك كمن حج وأشرك مع الحج التجارة، وكمن غزا وأشرك مع الجهاد لله تعالى الحصول على الغنيمة.
4 - فإن قيل: إن بدفع الزوجة زكاة مالها لزوجها الفقير، يعود النفع عليها وذلك بأن يكون مال الزكاة راجعاً إليها.
فالجواب من أوجه:
أ - ليس كل نفع يعود على باذل الزكاة من زكاته محرم، وإنما المحرم منه ما يسقط به الواجب عليه.
ب - حديث بريرة لما تصدق عليها بلحم، فقال صلى الله عليه وسلم: (هو لها صدقة، ولنا هدية).
فكون الملك انتقل من ذمة إلى ذمة، لم تكن ذمة الثاني مرتبطة بذمة الأول فيما يجوز وما لا يجوز منه على غيره.
فإن حكم الزكاة يزول بامتلاك الزوج له، فلا يكون منفِقًا لزوجته من زكاتها، كما تغيّر المال الذي أُنفق لبريرة فكان لها صدقة ولآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هديّة.
ج - روى البخاري من حديث معن بن يزيد: بَايَعْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَنَا وأَبِي وجَدِّي، وخَطَبَ عَلَيَّ، فأنْكَحَنِي وخَاصَمْتُ إلَيْهِ، وكانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بهَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ في المَسْجِدِ، فَجِئْتُ فأخَذْتُهَا، فأتَيْتُهُ بهَا فَقالَ: واللَّهِ ما إيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: لكَ ما نَوَيْتَ يا يَزِيدُ، ولَكَ ما أَخَذْتَ يا مَعْنُ).
فيه دليل على أنه بمجرد انتقال الملك من ذمة إلى ذمة لا يمنع من عودة النفع إلى ذمة الأول بسبب آخر يبيحه له، فالمال واحد، وسبب الاستحقاق مختلف.
د - روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى، ثم انصرف، فوعظ الناس، وأمرهم بالصدقة، فقال: «أيها الناس، تصدقوا»، فمر على النساء، فقال: «يا معشر النساء، تصدقن، فإني رأيتُكن أكثر أهل النار» فقلن: وبمَ ذلك يا رسول الله؟ قال: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للبِّ الرجل الحازم من إحداكن يا معشر النساء» ثم انصرف، فلما صار إلى منزله، جاءت زينب، امرأة ابن مسعود، تستأذن عليه، فقيل: يا رسول الله، هذه زينب، فقال: «أي الزيانب؟» فقيل: امرأة ابن مسعود، قال: «نعم، ائذنوا لها» فأذن لها، قالت: يا نبي الله، إنك أمرتَ اليوم بالصدقة، وكان عندي حُلِيّ لي، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود: أنه وولدَه أحقُّ من تصدقت به عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم».
قال الإمام أحمد: مَنْ ذَكَرَ الزكاة فهو عندي غير محفوظ، إنما ذاك صدقة من غير الزكاة.
والقاعدة: ما ثبت في الفرض ثبت في النفل، وما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا كما دل الدليل على تخصيصه.
وبناءً على هذا: يتقرر عدم جواز دفع الزكاة ليدفع بها ما وجب عليه شرعاً أو عرفاً -كإعانة الزواج لمن جرى بينهم ذلك-، ويجوز دفع الزكاة لمن عاد نفعها عليه ما لم تسقط عنه واجباً، والأفضل أن لا يحابي بها من يعود نفعها عليه بما لا يسقط عنه واجباً كما تقدم. والله أعلم.
** **
د. محمد بن سعد الهليل العصيمي - كلية الشريعة بجامعة أم القرى / مكة المكرمة.