يتردد تساؤل بريء أحياناً, وأحياناً لا يخلو من خبث موارب يراود التصريح لكنه لا يفعل, التساؤل عن معايير الإبداع ومحاولة فصله عن فخ النجومية أو الشهرة أو «الشعبوية», وربما أغلبنا طرح ذات التساؤل على نفسه بعد قراءة كتاب من فئة «الكتب الأكثر مبيعاً» ولم يجد فيه القيمة المعرفية التي توازي الشهرة التي نالها ذلك الكتاب, غالباً المُنتِج أو المنُتج الذي يلقى رواجاً حتى من غير المهتمين بالفن الذي يتحدث عنه يعني أن المؤلف انساق عمداً وبمعرفة مسبقة لذائقة الجماهير, فالناس بطبيعتها تحب أن تقرأ أو تسمع ما ينسجم مع قناعاتها, والأمثلة كثيرة سواء من النظريات العلمية أو الرؤى الفكرية التي رُفضت دون أن تناقش واستغرق الأمر سنوات حتى تقبّلها الناس, فالتأثير في الجماهير فنّ آخر يقود صاحبه للنجومية ويتقمص كثيراً من نظريات التسويق, ولعل ذلك يظهر جلياً الآن في «السوشال ميديا», فنجومه يجيدون السرد بطريقة عفوية آسرة, رغم أنهم غير ملمين في الموضوع الذي يتحدثون عنه, الأمر ذاته عند الكثير من مشايخ الصحوة الذين كانوا نجوماً يوازون شعبية لاعبي كرة القدم والممثلين, رغم إن المنشغلين والعارفين بعلوم الشريعة - إن صحت التسمية- لا يرون أولئك من العلماء الراسخين بالعلم, ولعلّ غوستاف لوبون الطبيب والمؤرخ الفرنسي وصاحب كتاب ( سيكولوجية الجماهير) قد لخّص هذا الأمر من زاوية مهمة معتبراً أن تحريك الجماهير والتأثير فيها يأتي بواسطة العواطف المتطرفة, إذ ينبغي للمتحدث أن يبالغ في كلامه ويؤكد على وجه جازم ويكرر دون أن إثبات شيء عن طريق المحاججة العقلانية, هذي هي الطريقة التي يستخدمها المتحدثون في الملتقيات الشعبية.
ولو وقفنا قليلاً عن جملة ( العواطف المتطرفة) لوجدنا أن الناس عندما يسألون متخصصاً بمجال ما فإنهم يريدون إجابة جازمة, فيما المتخصص غالباً من أكثر من زاوية فيطرح الرأي ونقيضه ومبررات أصحاب كل رأي, فهو يُشير إلى عدة طرق تؤدي لما يريده السائل, فيما السائل يريد إجابة جازمة كـ(نعم) , يبحث عنها وعندما لا يجد من يقولها له بكسل فقد لا تعجبه ثم يرى ( نعم ) هذه متطرفة, فيبحث عن ( لا) يتطرف بها ويراها الأصوب, في المقابل من يقول للناس ما يريدونه أشبه ( بالمفرقعات النارية) يلفت النظر والمؤيدين لكنه لا يشعل ناراً يُستفاد منها, ولعل هذا ما قصده الفيلسوف سورين كيركغور في قصة المسرح والمهرج عندما بدأ الحريق في كواليس المسرح, فصعد الممثل ليحذر الجماهير من الحريق, ظن الجمهور أنها مزحة وبدؤوا التصفيق, كرر المهرج التحذير وهو يصرخ, فازداد التصفيق في القاعة, كيركغارد يرى أن عالمنا ربما سينتهي بنفس الطريقة تصفيق الجمهور الذين يعتقدون أن هذه مجرد مزحة.
** **
- فهيد العديم