الكاتبة - مجلة «ريدرز دايجست» - سبتمبر 1937
لا تُفضّل ملايين النساء إعلان أعمارهنّ، وأصدقاءهن دائماً يقولن إن السبب هو أننا حسّاسون من هذا الموضوع، بمعنى أننا نُفضّل أن نبدو أصغر من عُمرنا الحقيقي، وهم لا ينوون تركنا نستمتع بممارسة هذه الرغبة!
فعندما أزور مسقط رأسي في بلدتي الصغيرة، يقولون لي بلهجة المُنتصر: «حسنا يا (ديل)، لقد كبرنا كُلّنا الآن عمّا كُنّا عليه عندما كنتِ هنا في زيارتك السابقة لنا، فدعينا نرى كم يبلغ عُمرك الآن..».
ويتابعون: «أممممم.. هل وُلدتِ قبل (نيللي) بسنة أو سنتين»!؟
عندها، من المُفترض أن أُلخّص لهم مراحل عُمري الماضية، وأُزوّدهم بقائمة تحتوي على ما أشكو من عِللي الصحية المتزايدة، ثم أستمع منهم إلى جدول يحتوي على والحالات المرضية والوفيات التي حدثت لأهل البلدة مؤخراً.
ولكن بدلاً من كلّ هذا، فإني أرفض إعطاءهم التواريخ، وأتمثّل مقولة السناتور (جلاس) الحكيمة، حين قال: «العُمر حالة من حالات العقل».
فالتسليم بأن معرفة عُمر الإنسان يُعد من الممتلكات العمومية، ربّما نشأ من افتراض أنه: بما أن موظّفي الإحصاء ووكلاء شركات التأمين، ومسؤولي شركات الطيران، وغيرهم من المؤسّسات العامّة، يحقّ لهم الحصول على معلوماتي الشخصية، فإنه من باب أولى أن يحقّ للأصدقاء أن يُمنحوا هذا الامتياز!
وفي رأيي أن الاختلاف بين الحالتين يظهر في حقيقة أن الموظّفين الرسميين لن يتحدثوا عن عُمرك، بل هم فقط سيدوّنونه في سجلّاتهم.
تقاعدت سيدة أعرفها منذ ثلاثين عاماً من عملها في منصب وظيفي رفيع، ولم أتساءل طوال تلك السنين عن عُمرها، فقد كانت تبدو دائماً رائعة ومُبتسمعة ومثيرة للاهتمام، ومحتفظة بعلاقات قوية مع الكثير من الزملاء والزميلات، لذا فقد صُدمت حين علمت أنها ستتقاعد.
سألتني السيدة فيما بعد: «حسناً، كم تتوقعين أنني أبلغ من العُمر»؟
كان الموضوع بغيضاً بالنسبة لي، لأني لا أريد أن أقصر حياة إنسان رائع مثلها بعدد معيّن من السنين.. فلما رأت تردّدي في الإجابة قالت: «أنا في الثانية والثمانين، ولو أن مديري قد خطر له للحظة كم أبلغ حقّاً من العُمر لاستغنى عن خدماتي منذ زمن طويل»!
لم يكن لرؤسائها أن يحلموا كم تبلغ حقّاً هذه السيدة من العُمر، وكنتُ اتمنَى لو أنها لم تخبرني، لأني طالما اعتبرتها إنساناً لا يتأثّر بالقُدرة على التحمّل والاستمرار في العطاء، ولا بمرور السنين. ولكني الآن لا بدّ أن أُفكّر فيها كشخص يبلغ من العُمر اثنين وثمانين سنة!
لقد كانت طيلة حياتها الوظيفية لا تُبالي بمرور الزمن، ولذا فهي لم تهرم أبداً.. فقد كانت تقيس حياتها بعدد الانجازات التي تحقّقها، لا بعدد السنين.
أما مديرة إحدى مدارس الفتيات، التي كانت ناجحة في المحافظة على محبّة وثقة الطالبات؛ فقد قامت مؤخّراً بإلقاء خطابها الأخير عليهنّ، وتوجّت لهُنّ بالسؤال: «لو سألتكنّ كم تتوقّعن أني أبلغ من العُمر، فبماذا تُجبن»؟
حدّقت الطالبات في المديرة بدهشة بالغة، وكأنهنّ يُعِدن النظر إليها من شخص مألوف إلى شخص فجأة أصبح غريباً.. فواصلت المديرة قائلة: «هذا الصمت والتفكير الواضح هو أبلغ إطراء لي، ومع ذلك، فلأني أريد أن يكون هذا الموضوع جزءاً من كلمتي الوداعية، فسأُفصح لكنّ عن عُمري، مع أني أعرف أن موقفكم مني سيتغيّر من الآن فصاعداً.. أنا أبلغ من العُمر خمسة وسبعين عاماً»!
توقّفت المديرة عن الحديث لوهلة، وأدارت عينيها بين الحاضرات، وأدركت أن نبوأتها تحقّقت! لقد تغيّرت مكانتها في الحال في نفوس طالباتها، فقد أصبحت اعتباراً من الآن سيّدة عجوزاً!
ثم إنها واصلت خطابها قائلة: «لم يسبق لي أن تحدّثتُ عن عُمري مطلقاً، لأني لم أُرد أن تتعاملوا معي بناءً على عدد السنوات.. لقد حاولت جهدي أن احتفظ بعقلي وتفكيري شابّاً، وصحّتي سليمة، وشخصيّتي أنيقة.. بكلمات أخرى: احتفظتُ دائماً بمسافة بيني وبين مرور الزمن، بدون أن أسمح له أن يصيبني بالهرم..»!
وابتسمت مواصلة: «إني أقول لكم هذا الكلام لتكونوا أقوياء عندما يغادركم الشباب، فكلّ مرحلة من مراحل العُمر لها ما يعوّضها؛ فالشباب حافل بالسرور والانطلاق والإثارة، وفي منتصف العُمر النموّ والتطوّر وتقدير الأمور حقّ قدرها، وفي السنين التي تلي تلك المرحلة هناك الحكمة والتأنّي والتفهّم والتغافل. وفي قبول كلّ مرحلة عندما تصلونها: لا تنظروا إلى الخلف بأسى وحسرة، ولا إلى الأمام بخوف وخشية.. وعندها لن تهرموا أبداً».
واختتمت المديرة نصيحتها قائلة: «ولذلك لا تنظروا إلى أعماركنّ كلّ سنة لوحدها، بل اعتبروه تيّار يفيض بين شاطئيه بالغنى والخصوبة والسلام والجمال. فعندما نقول: لا يمكننا أن نفعل شيئاً حيال تقدّمنا بالعمر؛ فإننا نكشف آثاره السلبية الخفية علينا، ولكن عندما نقول: بل سنفعل أيّ شيء ممكن لمواجهة آثاره؛ فإن ذلك سيكلّفنا قدراً من الجهد، ولكنه جهد يستحقّ ذلك».
أنا أعتقد بأن سرّ الشباب يكمن في الوقاية الصحية بدنيّاً ومعنويّاً، والأطباء يخبروننا بأننا إذا تحدّثنا عن إصابتنا بمرضٍ ما فإن من المحتمل أن نصبح مرضى، ولذلك فيجدر بالأطباء أن يقولوا لنا: «إذا تحدّثتم عن التقدّم في العُمر فستهرمون»!
فالعِلم يخبرنا بأن سنوات العطاء للإنسان يمكن أن يمتدّ كثيراً بعد بلوغه الستّين، ولكن العِلم أيضاً يشترط إبقاء شُعلة الأمل المُتقّدة دائماً لتحقيق ذلك.
ولذا فإن الأمل يخبو في النفس تدريجيّا إذا قوبل بالتذكير المتواصل بالعجز ومحدودية القُدرات والهرم.. وعلى الجانب الآخر نجد أولئك الناس الذين يملأون الحياة من حولهم بالعطاء والنشاط ، والأعمال التي تغمرهم بالمتعة والسعادة.
ولذلك، إذا سألني أحدهم مرّة: «كم أبلغ من العمر»؟
فسأجيبه: «إذا لم يكن لديك مانع، فهذا ليس من شأنك»!!
** **
- أحمد بن عبدالرحمن السبيهين