د. شاهر النهاري
عمل الطواقم الطبية في المستشفيات الثابتة، مجرد تطبيق عملي لما درسوه في الجامعات والكليات الطبية، بعمل إكلينيكي تمر ساعاته في مثابرة وحث على مزيد من التعلم والتطبيق، والتجول بين أروقة الأرضيات البراقة، والسقوف المضيئة، وجدران مزروعة باللوحات والأسهم، وأدوات السلامة، وبوابات ذكية، ومكاتب وعيادات مجهزة، وغرف استقبال وانتظار وعناية وفحص أولي، وكثير من الأوراق، والشاشات، والتنقل بين مناطق فحص المرضى وتحويلهم إلى الأقسام الأخرى محملين بتقارير طبية وطلبات تحاليل واختبارات، فتمر ساعات العمل إما بالتجويد أو البحث واكتشاف المتوقع والنادر من الأمراض، أو بشكل روتيني يتكرر بين الأقسام والممرات، أو بتغيير الملابس، وتشديد التعقيم قبل ولوج غرف العمليات، أو الدوران بين أسرة غرف الإفاقة والعناية المركزة، لتتبع مراحل العلاج ما يجعل من الصعب إدراك الزمن المتماهي فيها.
وفي أوقات الراحة يتجهون لكافتيريا، أو مطعم بالمستشفى، لراحة وتناول لقمة، وتصفح هواتفهم، والالتقاء بزملاء تخصصات ومناوبات لا يجتمعون إلا نادرا.
وتنتهي ساعات العمل بتسليم المرضى للمناوبين، وربما لا ينتهي العمل، قبل العودة للمنزل ومقابلة وجه الحياة الأخرى، بتأدية واجبات الأسرة والمجتمع وكسر روتينية العمل المنهكة، وتناول لقمة مطهية بالحب، قبل الغوص في فراش وثير يجاوره منبه حارس، قبل المسارعة بمقابلة الزحام، ومعانقة تكرار نفس الدائرة.
أما بالنسبة للعمل الميداني، فيبدأ بالسفر بالزي العسكري، إلى مكان نائي، ومشاركة زملاء المهنة في بناء وتجهيز وتشغيل مستشفى ميدانيا، وبأسرع وأيسر وسيلة، وبالمتواجد لديه من إمكانيات، وحسب حرج ظروف الوقت والجغرافيا والمهمة.
ولعل تلك بعض تجاربي الخاصة المحببة إلى نفسي، كنت أستطيبها بالخروج من روتين عمل قاتل، كوني متخرجا من كلية طب، ومن كلية عسكرية، وكم أبتهج بأداء مهامي الميدانية، فأكون بهندامي الميداني ملبيا لنداء العمل الصحي، وسط الطبيعة والبيئة رفقة مختلف زملاء العسكر والضباط، وهم يحملون أرواحهم على أكفهم، فداء للوطن، ومؤدين واجبات الرعاية بزملاء لهم بالصفوف الأولى، العاملين دون رفاهية ولا شروط مسبقة، فيصبح حتى الطبيب بينهم جنديا يختبر ويجدد معلوماته الإنسانية، ويتعلم من كل فرد حوله كيفية التعامل مع الأجواء، وتحديد الإحداثيات وأمكنة التجمع والاحتماء، ودراسة الممرات، وإقامة البوابات الطينية أو الحجرية، ومد الأسلاك الشائكة، والمساعدة ببناء نقاط الحراسة، ومهما علت رتبته يشارك في حفر الخنادق، ويرصف شكاير الطين، وينصب الخيام، ويتعلم أعمال التهيئة والسباكة والكهرباء، ومد التوصيلات للأجهزة في عرض الميدان، وسط كيان مموه لمستشفى ميداني، قد يكون أفضل أركانه خيمة.
انفصال كامل عن عوالم البريق، والتعامل مع روح الصحراء والجبال والأودية بكل طقوسها، وبما يلزم من أسوار شائكة، وعيادات، وعنابر ومناطق استقبال للحالات الطارئة، وغرف العمليات والعزل، والمختبر والصيدلية وجهاز الأشعة والاسعافات ومستلزمات قد تجمع بقلب عربة مجهزة، أو يتم تشغيلها وسط خيمة.
لا وجود للروتين، وكل حالة تحكم بظروفها وإمكانياتها، وقدرة القيادة على تحريك الجموع، والتنظيم، يجهدون ويجربون ويخلصون، غير أنهم في نهاية النهار، لا بد أن يكون مستشفاهم، مستعدا لاستقبال الحالات الحرجة.
مهنة الطب حكاية إنسانية جميلة عميقة، وهي في الميدان تزداد عمقا، بروعة التفاني وكمال الحب والأخوة، يدا من أيادي وطن لا ينسى أبناءه، من يضحون بأرواحهم لراحته، وسلامته، والذود عن حدوده، والعناية بإخوة لهم لم يختاروا المرض، وجرحى لا بد من معالجتهم، قبل عودتهم لخطوط حماية الوطن الأمامية.
المشاعر بين المعالج والمريض تسمو في الميدان، والمسؤوليات تتعاظم، وكم نشهد من مريض عفي قوي، يدوس على ألمه، ويتناسى إصابته، ويقدم رفقاءه على نفسه، ويختار العودة للجبهة متناسيا معاناته، ما يجعل العاملين بالمستشفى أكثر حماسا وتيقظا، وتفان في عملهم الإنساني والوطني، حتى لو ربطوا يومهم بليلهم في يقضة تتفانى.
حكايات بطولات الميدان تشيع، والحوادث المؤلمة تزيد من الحماس، وتعظيم المشاركة بما يحسن الفرد، وسط أجواء أخوة تولد في الميدان مع أشخاص لم نعرفهم في السابق، ببسالة وتشبث بمهام ميدانية أخرى تطول، وتزيد من خبرات الفاعلين بالمستشفى الميداني، وتشحنهم بالفخر، والأهمية، والقدرة على التعلم والمساعدة، والتنقل في سيارة الإسعاف أو مشيا ببسطار وقبعة معدنية إلى مناطق الإصابات وهم يحملون أدوات العلاج الأولي ومستلزمات الإنعاش، وأسطوانات أكسجين ونقالات لحمل المصابين، وكم تبرز قيمة التعاون، وتوحد الجهود مع إخوة يواجهون الخطر، ولا يجزعون بوقوعه، وهم يفتدون بعضهم.
العيش في الميدان حكاية بحد ذاتها، والتعامل مع من يكون هنالك من عقبات ودواب، وحشرات، وفخاخ، والنوم في خيمة يعيد الروح لحكايات ماضي الأجداد، ومصارعة بيئتهم، ودورات المياه مقننة، تفي ببعض الغرض، والاستحمام قد يغيب أياما، وتناول الطعام على الأرض في صحبة بطولية تجمع الرجال بذائقة ومتعة، والحكايات تحكي، والأناشيد تطيب، والرقص بالفخر والانجاز يكتب الصفحات، والتاريخ تصغي صفحاته، والسفر مع الرجال، والعيش بينهم في مجتمع خيام وبدائية يتحملها القادر الأمين، ويهرب منها الأناني الضعيف، والعيش بنعمة الموجود، وشبة النار، وعلوم الوفاء، والمعاناة تفرز المعدن القوي الناصع، وتفرقه عن شوائب الزيف الغثة اللامعة.
ترتيب المناوبات والعيادات واجب يظل على الأوراق، كون كل شخص يريد أن يعطي أكثر ما عنده حتى خارج أوقات عمله، كون الروح والأخوة تأبى على من كان يقظا أن يترك العيادات مزدحمة، ويترك خيام التنويم دون رعاية وعناية وعلاج، وتأكيد على حصول الارب في إعطاء الدواء واجراء التحاليل وأخذ العينات، ومهما كان المختبر صغيرا، إلا أنه يظل الأسرع والأدق في النتائج.
لا مجال للكسل في الميدان، والعمل فيه ليس طبيا فقط، ففي أركانه تحترم الأقدميات، وتختلف الإجراءات، والعقاب متقبلا ممن يتأخر أو يقصر في عمله، وقد يؤمر بتعبئة (شكاير) التراب، وأن يبني بها مرفقا، أو رصيفا، أو نصبا، وهو يفتخر بأداء عقوبته دون خجل أو كبرياء، بإخلاص اتقان ما بين يديه من عمل ميداني، يعرف أن الخير يخص، وأن الشر يعم.
عملت بمستشفيات ميدانية عديدة داخل معظم أفياء وطني السعودية، وخارجها حيثما كان نداء الواجب، وكم أتوق بعد أن ذقت التقاعد لمستشفى ميداني يبدأ من أول رفشة وطوبة، أزاول فيه تجديد روحي وحماسي، وتنفس اخلاص حب الأرض.