د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
وأما العنوان الثالث الذي جاء في كتاب النحوي القدير الأستاذ الدكتور/ محمد عبدو فلفل (المعنى في النحو العربي بين الوفاء لوظيفة اللغة وإكراهات الصنعة النحوية) فهو (هل من انكسار نحوي للمعنى؟) وتحته عنوانات فرعية تفصل الانكسار أي التغير.
بدأ الحديث بأن اللغة ليست دقيقة في تعبيرها عن الماديات أو المعنويات؛ لأنها تعبر عن تصورنا لتلك الأشياء، ونحوُ أيِّ لغة لا يصور اللغة بل هو جملة تَصوّرِ النحويين عن اللغة، وهو جهد إنساني، وكان الخليل رحمه الله تنبه إلى ذلك في جوابه عن مصدر علله، وهي أنها اجتهاد منه يمكن لغيره أن يأتي بغيرها.
من هذه العنوانات (علاقات نحوية شكلية) ويبين تحته أن عناصر التركيب اللغوي قد تكون على قدر المعنى حقيقية في دلالتها؛ ولكن جملًا أخرى لا يطابق ملفوظها معناه مطابقة دقيقة، فقد يكون الفاعل مفعولًا، وقد يكون المفعول فاعلًا من حيث المعنى لا اللفظ، وما يقرره الأستاذ وباحثون آخرون يؤيده ما سمع عن العرب من كلام مقلوب لا يحس مستعملُه القلبَ إلا بتأمل مثل (أدخلت العمامة في رأسي والخاتم في أصبعي) بل رووا ما عاند اللفظ كقولهم (خرق الثوبُ المسمارَ)، ولذا يقرر أن العلاقات في النحو قد تكون شكلية، وهو أمر حسب قوله «ليس غائبًا عن نحاة العربية ... لذا لن يكون عرضنا له ... كشفًا لما ليس معروفًا ولا إنكارًا لما ليس مقبولًا أو متفهمًا بل تدليلًا على أن بعض العلاقات المكونة للنظرية النحوية العربية علاقات شكلية لفظية، لا يَعتمد عليها مستعمل اللغة في فهم المعنى أو التعبير عنه... والغرض من مسعانا هذا هو تسمية الأشياء بمسمياتها في الوقوف على حقيقة منزلة المعنى في النظرية النحوية العربية». (ص53-54)
ومن العنوانات (الفاعل في النحو مفعول به في الواقع) وفيه ينقل من نصوص النحويين ما يبين إقرارهم أن بعض ما يعرب فاعلًا هو في الحقيقة مفعول، مثال ذلك نص نقله عن ابن السراج حول الأفعال المستعارة «أفعال مستعارة وفيها بيان أن فاعليها في الحقيقة مفعولين، نحو مات زيد، وسقط الحائط، ومرض بكر» (ص54). ويعقب أستاذنا بالإشارة إلى أن تعريفهم الفاعل بأنه الذي فعل الفعل أو اتصف به قول أكثري لا كلّي. ومن ذلك (المبتدأ في النحو مفعول به في الواقع) وينقل من نصوص النحويين ما يدل على ذلك كنص الجرجاني «وإنما جاز ذلك في المبتدأ لما ذكرت من أن معنى قولك (زيدٌ اضربْه) و(اضربْ زيدًا)واحد، فلما صحّ الفائدة جاز أن يكون الخبر أمرًا في اللفظ، وإذا (زيدٌ) في المعنى مفعولًا به»(ص55-56). ومن ذلك (المبتدأ في النحو فاعل في الواقع) ويسوق مثالًا لذلك قول ابن جني «وكذلك قولنا: زيد قام، ربما ظن بعضهم أن زيدًا هنا فاعل في الصنعة كما أنه فاعل في المعنى»(ص58). ونقل نصًّا عن الخالدي انتهى بوصف تعليل النحويين لجعل زيد مبتدأ بأنه تعليل متكلف، ويزيد أستاذنا بأن ما زاد الطين بله إصرار النحويين على تجنب تسمية المسند إليه المتقدم فاعلًا لأسباب عاملية فرتبة العامل حسب ابن يعيش قبل المعمول، ويذكر ابن يعيش أن الفاعل أمر لفظي فهو فاعل في النفي والإيجاب والمستقبل والاستفهام فعل أم لم يفعل، ويختم أستاذنا بالقول «الحكم إذن على الاسم المسند إليه المتقدم على المسند في نحو (زيد قام) حكم لفظي شكلي محكوم بالاستجابة لأصول نظرية العامل، وليس بالاستجابة إلى المعنى»(ص59). ومن ذلك (المجرور على الإضافة فاعل أو مفعول في الواقع) وأشار في هذا السياق إلى المضاف إضافة لفظية إلى معموله كما في قوله تعالى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [95- المائدة]. ومثله إضافة المصدر إلى فاعله أو إلى مفعوله (سرني إكرام زيدٍ عمرًا) فزيد مجرور لفظًا ولكنه فاعل معنى، و(سرني إكرام عمرٍو زيدٌ) فعمرو مجرور لفظًا مفعول به معنى. ومن ذلك أيضًا (الخبر لما لا يصح أن يخبر عنه) ومثل لذلك بقولهم: خبر (كان) وخبر (إنَّ) مع أنهما ليسا اسمين يخبر عنهما، وهو أمر أدركه ابن يعيش وفسره قال «إنما هو تقريب وتيسير على المبتدئ، لأن الأفعال لا يخبر عنها». شرح المفصل، 7/ 91.
وما ذكره أستاذنا من نماذج يمكن أن تضاف إليها ظواهر أخرى مثل النعت المقطوع ونعت السببي. وما نزع إليه من اعتماد على المعنى في التحليل وجدنا مثله عند عبدالقادر المهيري في معالجته قضية الجملة الاسمية في كتابه (نظرات في التراث اللغوي العربي) ص43 وما بعدها.
ختم هذا الموضوع بقوله «لعله اتضح من هذه النماذج أن بعض العلاقات النحوية الناظمة لعناصر الجملة ... شكلية لفظية، لا تعكس حقيقة ما يربط به هذه العناصر من علاقات معنوية دلالية في الحقيقة مما يسهم في تحديد المنزلة الحقيقية في النظرية النحوية» (ص63). ويضيف إلى ذلك ما يسعد منزلة المعنى ما سيبينه من مكونات أساسية أخرى سيأتي ذكرها. وكلامه كله بيان جلي لما يمكن أن تُجيء إليه الصنعة النحوية من حجب للمعنى الحقيقي للغة.