د. إبراهيم بن جلال فضلون
لا أتحدّث باسمي وإنما باسم عشرات المئات من أهل الرأي الذين استمعت إلى آرائهم وتعلمتُ، ولا زلتُ، أتداول معهم الفكر البنّاء وتقويم الطالح منه وما اعتراه من لحن القول ممن تملكتهم الحيرة والذهول مما يجري على الساحة التقنية، في مرحلتها الحرجة للغاية والقاسية بأبعادها الزمنية، لاسيما تطبيقات الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي، وجروباتها التي اخترقت أذاننا وتلاعبت بآرائنا وأفكارنا، حيث تزمجرت مواقف أهل الرأي بسبب الدهشة التي أصابت أطياف العالم الفكري وكُتاب الرأي ومكوناته نتيجة ما صاحب بوابة «الرَّأْي»، فمن معنا ومن علينا؟، وذلك ليس اعتراضاً على المساعي نحو الوفاق والإصلاح، ولكن على الوسائل والأدوات والغايات، فعملية الاختزال للرأي ومنع صوته أمر غير مقبول بشكله وموضوعه، بل ينبغي سماعه بآذان صاغية وقُلوب مفتوحة، كما واجهها «أصحاب الرأي» في القرون الأولى بمعناه الحقيقي وشكلت أطيافاً مُتنوعة من مجموعة كانت خلافاتها في استخدام الرأي أمراً نسيباً فقط، ليكون (أصحاب الرأي وأصحاب أرأيت)، مدرستين في زماننا لا هدف لهما، بمجتمعاتنا العربية المُحاصرة بالتحديات وهي أحوج أكثر من أي وقت مضى لثقافة الحوار وقبول الآخر وتطبيق قاعدة الرأي والرأي الآخر، وهنا نرى خير مثال القصة الهندية القديمة حول (المكفوفين والفيل) حينما يُحيط مجموعة من الرجال المكفوفين بفيل للتعرّف على شكله. وكل منهم يصفه بعد لمسه، يقارنون تجاربهم ليقول أحدهم «الفيل على شكل شجرة» وآخر لمس ساقه: «لا، لا، الفيل مثل جدار»، يقول آخر لمس خرطومهُ: «مُستحيل، الفيل مثل أفعى»، حتى حصل الجميع على صورة كاملة مُتكاملة، تُبين أن التجارب الشخصية يمكن أن تكون حقيقية، لكنها محدودة.
وهُنا يحضرني موقفٌ راسلني فيه منذ أيام إعلامي له مكانته بقلوبنا جميعاً، بإضافتي لكوكبة من الكُتاب لتبادل الرأي والفكر، ومن عاداتي ألا أتشارك حتي تكتمل الصورة الذهنية لي عن الجروب وأهدافه وما تحملهُ من قيم وغايات بناءة لله والوطن، لاسيما في ظل الجروبات التي (هبت ودبت) بكل ما نحياهُ من غث وثمين، وصالح وطالح، لذا أكتفي بالمراقبة كالصقر في ميدانه، حتى يتبين لي خير المشاركة فأُشارك بما يكتبهُ الله لي بخير الفكر، لكن ما يُزعجني هو أن يتحكم الرأي بالعقل فيمحو الفكر والتفكير، فيضيف المشرف على الجروب الأسماء ويحذفها كما يشاء دون اعتبار لقيمة الرأي (قلمهُ) وحريته بشريته، أو الاستئذان لصاحب الرأي في حذفه، بل يُطيح بكل معاني المهنية التي يرتدي ثيابها من تعقل في أخلاق وزينة الرجال الحسنة، ليعتذر لي، لكن ردي كان (لا أقبلهُ)، ليس اعتراضاً على شخصه فهو مثال وخير صاحب، فالرجال معادن والأنفس خلقها الله فأحسن صورتها، وترك لها حريتها في الأفعال والأقوال، لكن ثمة سهواً منهُ وهنا أعاتبهُ أيضاً في الطريقة، وأُعاتب نفسي في الموافقة على المشاركة بالجروب.. فلستُ كغيري سعداء بما يجري دون مزايدات. فثمة انحراف لا لبس فيه في الرأي ومفاهيمها وطُرق الممارسة أيضاً لها، والشواهد على ذلك عديدة، ولكنها باتت مُغيبة عن تلك الأطراف وغائبة عن الغايات والتبعات غير المحمودة على حساب البشرية جمعاء ومخاطر بروز الثقوب فيه, وإن كان الفقهاء جميعاً أهل رأي، كونهم أهل الشورى الذين يقدمون المشورة والنصيحة للحاكم ونحوه كالعلماء والكبراء وغيرهم من كتاب الفكر الذي يمنع رائداً فيها رأي من يقتدون به، فيحجر عليهم بلا استئذان حفاً ومنعاً وإحراجاً بين أهله من الكتاب، فهل ذلك برأي وهل تلك أخلاق المهن السامية، والسلطة الكريمة بالعالم الإنساني؟
إنهم يا سيدي أهل الرأي وأصحاب الحل والعقد المجتمعية وما شابهها، وهُم ذوو النُخبة من الناس بفكرهم الذي يُلامس حياتهم ومشاكلهم، وغير ذلك ممن تلزم استشارتهم من طرف المسؤولين وولاة أمور المسلمين؛ لأجل عرض أعتى القضايا والمشكلات، وإيجاد الحلول المناسبة لها.. نقولها بحسرة مهنية، إن أهل الرأي لم يكن لهم رأيٌ فيما نراه في آونة الذكاء الاصطناعي الذي يتلاعب ويكتب ويمحو أهلهُ، وفي شباك تطبيقات اجتماعية لا رابط لها، فإن لم نكن قادة الرأي والتفكير فيهما فالحذر ثُم الحذر، فالروبوتات تكتب مثلنا، وتُزاحم أفكارنا بكتابة المحتوى والمقالات، فالمغامرات يمكن أن تعصف بنا وبعالمنا نحو المجهول والمُبهم، فالاختلاف في الرأي لا يُفسدُ للود قضية.. والتي جاءت، عبارتها في إحدى أجزاء المسرحية الشهيرة لأمير الشعراء المصري أحمد شوقي (مجنون ليلى) وهي: «ما الذي أغضب مني الظبيات العامرية ألأني أنا شيعي وليلى أموية؟ اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية».
لكل منا طريقته، وعقليته، التي يتناول بها الموضوعات، حتى حالتنا النفسية تؤثر في طريقة حكمنا للأمور، كل ذلك لا يجب أن يؤثر على الود والعلاقات الطيبة بين الناس.. ومن المهم إظهار سماحة القول والتعبير عند الجدال أو مناقشة وجهات نظر والأفكار المختلفة.. ولكم مني أهل الرأي الاحترام.