عبدالوهاب الفايز
قبل بضع سنوات.. من كان يتوقع أن يصل الاهتمام بالبيئة في المملكة إلى هذ الشمول والعمق لمعالجة الخلل والإهمال الذي كنا نمارسه بحق بيئتنا، وبحق مكونات حياتنا الفطرية البرية والبحرية؟
وهل كنا نحلم بالبرامج المتعددة المنفذة التي نراها الآن ونجني ثمارها في مجالات الحماية الصارمة للغطاء النباتي، والرقابة المشددة للالتزام بالاشتراطات البيئية، والحماية والرعاية النوعية لتنمية الحياة الفطرية؟
هذا التحول الكبير الإيجابي لبلادنا يستحق المتابعة والاهتمام، فالمنجزات السريعة التي نحققها لحماية البيئة وإنمائها ورعايتها هي أولاً منجز للمواطن السعودي، قبل أن تكون إنجازاً للأجهزة الحكومية. هذه النجاحات تتحقق لأن المواطن السعودي لديه القناعة أنه هو الحامي والراعي للبيئة، وهذا داعم لسرعة الإنجازات في هذا القطاع.
وهذا الذي نراهن عليه، فالناس لديها الوعي والقناعة بضرورة حماية البيئة. عندما مدت الحكومة يدها تقابلت وتكاتفت الأيدي، وهذا ليس كلاماً عاطفياً تبعثه الخيالات الصحفية. الناس ترى وتعي ما يحدث للبيئة من تدمير، وتدرك معنى التغيرات المناخية وخطورتها، فالأرض هي الموئل الأول والأخير للبشرية، والله سبحانه وتعالى أمرنا بعمارة الأرض، والمحافظة على الطبيعة هي أبسط الجهود المطلوبه لعمارتها، فالإنسان المؤمن/المواطن الصالح لن يتكلف الجهد الكبير أو المال الوفير لكي يحافظ على البيئة. الجهد البسيط.. والكلمة الطيبة الصادقة يصنعان الفرق.
هذه الأفكار والآراء تداعت هنا استجابة لدعوة تلقيتها لحضور ورشة تعقد الأربعاء المقبل ( 3 مايو 2023م) في مدينة الرياض ينظمها المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية. في ورشة العمل المتخصصة هذه ينتظرنا حدث وطني جديد في قطاع البيئة، فالورشة تتناول أحد أبرز الاكتشافات في الحياة الفطرية في الجزيرة العربية، وستكون تحت عنوان: «الفهد في السعودية: من المومياء إلى إعادة التوطين»، ويرعاها وزير البيئة والمياه والزراعة رئيس مجلس إدارة المركز م.عبدالرحمن بن عبدالمحسن الفضلي.
الورشة سوف تُقدم فيها نتائج الدراسات والبحوث التي أجريت لمومياوات الفهود المكتشفة في دحول شمال المملكة، والمسؤولون في المركز يرون أن هذا الاكتشاف يشكل حدثًا مفصليًّا في منظومة الحياة الفطرية في المملكة.
في أغسطس العام الماضي أعلن المركز عن اكتشاف جثث لـ17 عشر فهدًا صيّادًا في إحدى الدحول الموجودة في سهول محافظة رفحاء شمال المملكة. وذكر المركز حينها أن هذا الكشف يوفر عيّنات نادرة جدًّا من الفهد الصيّاد الذي كان موجودًا في الجزيرة العربية. ولهذا الاكتشاف، حسب ما يقوله المسؤولون، أهمية خاصة حيث سيدفع ببرنامج إكثار الفهود، الذي يعمل عليه المركز منذ إنشائه عام 2021, وسوف يساعد خبراء المركز، بعد تحديد تاريخ النفوق، على (استخلاص التركيب الوراثي، و مقارنتة بالأنواع الحيّة، واختيار الأقرب للنوع المحلي لإعادة توطينه).
هذه البقايا اكتُشفت بعد سلسلة من المتابعات والبحث والتحرّي قام بها خبراء المركز، ضمن برنامجه الخاص لفحص الكهوف والدحول للتّعرف على التنوع الأحيائي في بيئاتها. الرئيس التنفيذي للمركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية، الدكتور محمد علي قربان، يرى أهمية نوعية لهذا الاكتشاف، فـ(الفهد الصيّاد أحد الفصائل التي انقرضت في الجزيرة العربية منذ أكثر من 50 عامًا، وتُعتبر عيّناته المحفوظة في المتاحف، أو مراكز الأبحاث غاية في الندرة، مضيفًا أنّ هذه العيّنات المُكتشفة تعتبر بمثابة دليل مادّي وحيد على وجوده في المملكة.
وأوضح قربان أن هذه العيّنات المكتشفة تعد (أوّل دليل قطعي على انتشار هذا الحيوان في الجزيرة العربية، وأنّه كان يعيش ضمن مجموعات في شمال المملكة). ويرى أن هذا الاكتشاف سوف يغير النظرة المُسبقة عن الكائنات الفطريّة المنقرضة، وحقيقة وجودها في هذه البيئة.
وخبراء الحياة الفطرية يتطلعون إلى نجاح توطين الفهد الصياد كما نجحت برامج التوطين والإكثار لعدد من الحيونات. فعملية الإكثار حققت نجاحها حين أعلنت الهيئة الملكية لمحافظة العلا ولادة فزارتين صغيرة النمر من فصيلة النمر العربي، العام الماضي. الصغيران ولدا في مركز الأمير سعود الفيصل لأبحاث الحياة الفطرية، الذي يمثّل أحد برامج الإكثار الساعية لزيادة عدد النمور العربيّة وإعادة توطينها في الحياة البريّة. ويُعدّ النمر العربي أحد أكثر الحيوانات المهدّدة بالانقراض في العالم، حيث لا تتجاوز أعدادها اليوم نمر، ويعود السبب إلى فقدانها موائلها الطبيعية، والصيد الجائر خلال الأعوام الماضية.
الهيئة الملكية لمحافظة العلا لديها مبادرة للحفاظ على النمر العربي، وتنفذ برنامج الإكثار عبر افتتاح «مركز النمر العربي» بمحميّة شرعان الطبيعيّة، إلى جانب إنشاء «صندوق النمر العربي» الذي خصّصت له الهيئة الملكية 25 مليون دولار وتهدف الهيئة الملكية من خلال استراتيجيتها إلى الحفاظ على النمر العربي وحمايته من الانقراض من أجل تأهيل النظم البيئية وتُعد العلا موطنًا أصليًّا للنمر العربي عبر التاريخ، وهذا تُؤكده تلك النقوش الصخريّة التي عُثر عليها في مواقع متعدّدة في المحافظة.
هذه الجهود في قطاع البيئة نحتاجها لمواجهة المشاكل والتحديات التي تجمعت في العقود الماضية. وزارة البيئة والمياه أوجدت الآليات والممكنات لمواجهة هذه التحديات.
الذي يهمنا الآن هو: كيف نستثمر هذه التحديات لتكون فرصاً لتطوير المشاريع، وحفز مؤسسات القطاع الأهلي، والأهم استثمار قطاع البيئة، كإحدى أدوات الدبلوماسية الناعمة المهمة، لأجل تقديم بلادنا كراعية وكمساهمة في حماية البيئة وفي حماية التراث الإنساني، وحماية الأرض وعمارتها، وهذا ما سوف تقدمه الورشة الأربعاء المقبل.