عبدالله رحيل
سنةُ الكون تغييرُ نَمطية الحياة الرتيبة، ضمن قوانين متبعة، في دوران الأفلاك، والكواكب، ومواقع النجوم والأقمار، ومن ذلك شِرْعَة الأديان السماوية المتبعة لمنهجية الله في إدارة شؤون الخلق، وفيما يؤمنون به، جزاءً وِفاقًا من خالقهم، لما قدّموه من عبوديّة للإله الواحد، الذي يوحّدونه في عباداتهم المختلفة، وهذه فِطرتهم، التي فُطِروا عليها، وبالمقابل من ذلك شُرِع تغييرٌ نموذجيٌ لكسر هذه الفِطرة، والنّمطيّة، والرتابة بعبادة الخلق على مدار العصور، بصومٍ مُباحٍ، منذ أن وُجِد الإنسان على وجه البسيطة؛ تعبيراً لاستجابة كلمة الخالق، التي أمرتهم بالصوم المُفضي لأعياد؛ تكون خاتمة العبادة البشريّة، بعد أن أكملوا نظام الامتثال للإله، الذي أوجد الأكوان، ورفعها، ما يخلق أفراحاً متنوعة هَزِجة بانتهاء عبادة شُرعت، وهو ما يروح عن النفس، ويلبي حاجة المخلوقات إلى السكينة، والتغيير، والنزوع إلى التجدد، والتنوُّع.
وفي هذا التغيير الزمني، والروحي لماهيّة العبادات المختلفة، يكون الصوم الرمضاني عند عامة المسلمين شهرًا كاملًا، يمتنعون فيه عن المفطرات جميعها من بزوغ الفجر، حتى غروب الشمس، وفي أرجاء المعمورة كلها، يمسكون بآذانٍ واحدٍ، ويفطرون بالآذان نفسه، في روحانية العشق الإلهي، وطمأنينة النفس المؤمنة البارئة إلى ربِّها في الغفران، والصفح، ومن الجدير بالإشارة إلى أن الصوم اُتُّبِع في الأديان كلّها؛ تقويمًا وتهذيبًا للنفس البشرية بالصبر والإيمان، ومطلبًا لبلوغ أمر صحيَّ في الأبدان المتعبة، من تضخُّم الغذاء الزائد.
فالخلق المتضرِّعون صومًا بغفران ذنوب، وخطايا اقترفتها نواحي الجسد المتنوّعة، ينتظرون ختام عبادة، أرهقت نفوسهم بمبلجِ صباحِ عيدٍ، يكون بإباحة المفطرات كلّها ليل نهار، حيت تعمُّ الفرحة، والنشاط، وكسر الرتابة، التي كانت تحيط بهم في طبيعة حياتهم اليومية في الصوم.
وباكتمال عبادة، وشعيرة كبيرة في النفس المؤمنة، ينبلج صبح العيد، ويأفل هلال الصوم، حتى لقاء عام قادمٍ به، فيكبِّر المؤمن، ويهلل بقدوم فطر مبارك، يقبل إليه بالمفطرات المباحة، واللهو، بما أوجده من عفّةٍ، وطهارة لأفئدة ملأتها قصص الإيمان الروحانية بشهر الصوم الرّحيم، وبهذه المقاصد والطقوس، يكتمل الشهر المبارك العظيم باجتماع الأحبّة، والأُسر، التي تعلو أفواههم تبريكات العيد، والمسرّة بالإقبال إلى حياة جديدة مفعمة بالروحانية، والمحبّة، يتبادلون في عيدهم عبارات الترحيب، والتهليل، والبركة الدائمة، وقد انقشعت من النفوس غيوم التفرقة والانعزالية، وسحب إشاحة بعض الوجوه عن بعض، لأسباب دنيويّة زائلة، فالعيد في هذا يكون سببًا لاجتماع أحبّة، ربّما فرّقتهم متاعب الحياة، وبهذا يكون سببًا لما يوجب أن يوصل من صلة الأرحام، وتهدئة النفوس ونشر المحبة بينهم، وطريقًا نحو بوّابة الألفة، ونبذ الخلاف، واستمرار منهجية الحب الخالد، الذي أوجده الله في الأرض؛ لأجل ذلك شُرِع العيد أساسًا للتغيير، وترك مسالك الإسراف في القطيعة.
ففي مَصبح يوم العيد، صلاةٌ بطهر كامل الجسد، تليها ترنيماتُ مساجدَ، وتكبيراتٌ تدعو للمحبّة، والركون إلى روحانية شروق النفس، بثياب جديدة، وجميلة، حاملة مشاعل الإنس، وكتب السلام؛ امتثالًا لأمر ربّها نحو التعارف.
وفي سنة يوم العيد تُدار موائد الحلوى، والأطعمة المباحة، التي تثبت حلاوة الطهر، ولذة المحبة في النفس، وتصافح القلوب، والوجوه، وقد أُزِيلت فتن الحياة، وحلّ محلّها اجتماع، وأنس، وأفراح، ومسرّات، وبشائر في رحلة إلى الغد السعيد.
ومَغزى العيد في اللغة الموسِمُ، وكلُّ يومٍ فيه جَمْعٌ؛ فهو اسمٌ لِمَا يعودُ من الاجتماعِ العامِّ على وجهٍ مُعتادٍ، عائدٍ بعودِ السَّنةِ، أو بعودِ الشَّهر، أو الأُسبوع، أو نحوِ ذلِك، وهو الوقت الذي يعود فيه الفرح والاجتماع والتلاقي.
وعيون الأخبار في العيد مفتونة بسحر الّلفظ، وجودة المعنى، وفي حسن صياغة التعبير بِسَبك الكلمة في معناها المؤلِّف لقداسة الأعياد في الأشعار، وفي ألسنة الشعراء، وفي تمثيل المشهد المفرح في نهر عيد لمبسمٍ مشرقٍ نبيلٍ، ففي كتاب المفضليّات للمفضّل الضّبيّ ذكرٌ للشاعر الجاهلي تأبط شرًا يذكر فيه العيد، وما اعتراه من شوق لترقبه:
يا عيد يا لك من شوقٍ وإيراقِ
ومَرِّ طيفٍ على الأهوالِ طرَّاقِ
يسري على الأين والحيات محتفياً
نفسي فداؤك من سار على ساقِ
وهنا يكون العيد مادةً خصبة للصور الشعريَّة البنَّاءة، والواصفة لمشاعر الخلق في العيد، فيقول ابن الرومي:
ولما انقضى شهر الصيام بفضله
تجلَّى هلالُ العيدِ من جانبِ الغربِ
كحاجبِ شيخٍ شابَ من طُولِ عُمْرِه
يشيرُ لنا بالرَّمز للأكْلِ والشُّرْبِ
وقول ابن المعتز:
أهلاً بفِطْرٍ قد أضاء هلالُه
فالآنَ فاغْدُ على الصِّحاب وبَكِّرِ
وانظرْ إليه كزورقٍ من فِضَّةٍ
قد أثقلتْهُ حمولةٌ من عَنْبَرِ
والحديثُ عن العيد صوتٌ روحانيٌّ قادمٌ إلينا؛ يجلو النفوس بفوانيسِ النور الرّبانيّ، التي تنشر ضياءها في أنحاء البلاد والكون، فهو بِشرٌ مرتقبٌ، وبذلٌ محمودٌ مغفورٌ، وطابعُ البُشرى، وفيه الفرحة غامرةٌ نفوسَ الخلائق، ورايةُ البركة والتهليل تطوف فوق رؤوسنا، وكلُّ سنة، والخلق أجمعون تغمرهم أمواج الخير المتلاطمة، بسموِّ نفوسهم الطاهرة، وكل عامٍ، والجميعُ بخيرٍ ومسراتٍ أبديَّة سرمديّةٍ.