د.محمد بن عبدالرحمن البشر
أيها الشاعر المميز أنت الذي قلت في إحدى قصائدك:
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ
بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
يا أبا الطيب سنبلغك عن حال عيدنا، فنحن ولله الحمد في أمن وأمان، وراحة بال واطمئنان، بفضل الخالق الديان، ونحن بفضل الله ننظر إلى العيد نظرة متفائلة، ونعيش أيامه عيشة هانئة، وعيدنا يا أبا الطيب فيه من المتع الكثير، وفيه المحبة والتقدير، وبر الوالدين، والتزاور، وصلة الرحم، ومحبة الناس، واجتماع الأحباب والأقرباء ونتجنب فيه القطيعة والبغضاء.
نعم أيها الشاعر الفذ، نعترف لك بأن البعض منا في أعيادنا، قد تحل به الفواجع، أو تعتريه المواجع، وقد يشعر بالكدر، من غدر قليل من البشر، وقد يشعر البعض بالكآبة، من طعون الدنيا والرتابة، وقد ينتاب أحدنا حزن، من توالي المحن، لكن الكثير منا يرضى بما قسم الله ومن ويؤمن أن الخير فيما اختار مولاه، فلا يهن، ولا يحزن، يزداد يقينه مع زيادة المصائب، ويقوى إيمانه مع وقوع النوائب، والصبر سلاحه في مواجهة أتراحه، يقول ابن زيدون:
سَتَصبِرُ صَبرَ اليَأسِ أَو صَبرَ حِسبَةٍ
فَلا تُؤثِرِ الوَجهَ الَّذي مَعَهُ الوِزرُ
والبعض منا لا يفقد الأمل، ولا يصيبه الكلل، يتعلق بقشة، وترويه رشة، ينظر إلى آخر النفق، فيرى في طرفة ضوء أشرق، فيفرح بما لاح، ويبني عليها الأفراح، فيطيب عيشه من وهم، ويزول عنه الهم، فيكسب في عمره أيام سعادة، لعلمه أنها سائرة لا تتوقف، فخير له أن يعيشها سعيداً بوهم، من أن يعيشها شقياً في غم، وهي ماضية رغم أنف البشر، لكنه الأمل، يقول الشاعر أبو اسماعيل الطغرائي:
أعلِّلُ النفس بالآمالِ أرقُبُها
ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ
أيها الشاعر الكبير، لدينا معلومات كثيرة عنك، بعضها صحيح وبعضها قد يكون خطأً، أو مبالغاً فيه، وقد كتب عنك بعد وفاتك بخمسة قرون أكثر من مائة كتاب لشرح شعرك، والحديث حول فعلك، ألست القائل، وأنت المحق في ذلك:
أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها
وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ
نعم أنت شاعر لا يضاهى، وعرف عنك العفة، والبعد عن الخنا ومجالس الرذيلة، ويقال إنك لم تزن، ولم تلط قط، طموح وجاد، ذكي ذكاءً حاداً، سريع الحفظ، عميق الفهم، ضليع في اللغة، مطلع على كتب كثيرة، ومنها كتب الفلسفة، كما أن كذبك نادر، قد تستخدمه فقط في المدح، أو في المراوغة عند عظائم الأمور، لكن أيضاً وصموك بأن فيك غلظة، وفظاظة، مر النفس، حاد الطبع، صعب الشكيمة، هجّاءً، متكبراً، معتزاً بنفسك، مع أنفة زائدة، كما يقال إنك بخيل، شره في حب المال، متغطرس، تحتقر الآخرين، وشاهد ذلك قولك:
أَيَّ مَحَلٍّ أَرتَقي
أَيَّ عَظيمٍ أَتَّقي
وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ اللهُ
وَما لَم يَخلُقِ
مُحتَقَرٌ في هِمَّتي
كَشَعرَةٍ في مَفرِقي
لقد تجاوزت الحدود، وساقك الغرور إلى الجحود، وتناسيت أنك عبد ولست معبوداً، فتعالى الله الخالق، المانع والرازق، وقد أكرم الله الإنسان، وزينه بالإيمان، فلا يصل بك الاعتداد بالنفس إلى أن يغويك ويرديك، ويحملك الزهو إلى أن ترى نفسك فوق البشر، فما أنت إلا واحداً منهم، لم يخصك الله بالنبوة، ولم يرسلك برسالة، ولك في سيرة الأنبياء والرسل أسوة، فقد جمعوا مكارم الأخلاق، ومنها التواضع، واحترام الآخرين.
أيها الشاعر المتميز في شعرك، لقد ولدت في كنده ضاحية بقرب الكوفة، كانت سكنى للجمالين والسقائين، وكان والدك حسين السقاء، وهي مهنة شريفة، يلقب بعيدان، لم تذكر المصادر اسم والدتك أو نسبها، رحمها الله ورحمك رحمة واسعة، وقيل قول غير مؤكد إن أمك من الرضاعة علوية، عشت في صحراء الشام وأنت صغير، فارتويت من معينها اللغوي الذي لا ينضب، وازداد لسانك نقاءً، وحسن سبك، وجمعت في ذاكرتك الواسعة كماً هائلاً من المفردات النادرة، التي كالدر في البحر، لا توجد إلا في الصحراء.
ذهبت إلى حلب حيث بلاط سيف الدولة الحمداني حاكمها، ومثيلك في العمر، وفي حب الشعر، فتآلفت القلوب، ووسعت لك الدروب، فعشت تسع سنين سماناً، وأغدق عليك سيف الدولة المال، وقربك في مجلسه، فغار منك الأقران، وحسدك جلساء السلطان، مثل سيف الدولة ابن عم السلطان وابن خالويه، وغيرهم، ورماك ابن خالويه بمفتاح بيده، بعد مشاجرة عند موضوع لغوي، ولم ينتصر لك الحاكم، فغادر إلى مصر مغاضباً، حيث يوجد حاكمها كافور الإخشيدي الحكيم، فاستقبلك وأكرمك، وقربك ورفعك، لكن طموحك تجاوز المال إلى حكم الصعيد، فماطل، فاحتقرته حيث كنت تدخل عليه منتعلاً خفاً، وممتطياً سيفاً، لكنه كان حليماً حكيماً فأغمض عينيه وغض طرفه، ثم غادرت خلسة في يوم عيد، وقلت قصيدتك المشهورة، ولهذا فعيدك غير عيدنا، وطموحك غير طموحنا، وكنزنا القناعة والحمد لله.