د. عبدالحق عزوزي
كل أنظار الفرنسيين كانت متجهة هاته الأسابيع صوب المجلس الدستوري الذي بث منذ أيام في شرعية قانون التقاعد الجديد الذي مررته الحكومة مستخدمة المادة 49.3 من الدستور وهي المادة التي سبق وأن خصصنا لها مقالة في صحيفة هاته الجريدة الغراء.
وللفائدة، فإن المجلس الدستوري هو مؤسسة فرنسية عليا تم تأسيسها وفقاً لدستور الجمهورية الفرنسية الخامسة في سنة 1958؛ ومن بين اختصاصاتها مراقبة نزاهة الانتخابات والاستفتاءات الشعبية التي تطرحها الحكومة والنظر في شرعية القوانين التي يتم المصادقة عليها من قبل البرلمان حسب المواد الدستورية؛ والمجلس متمركز في مبنى الباليه رويال العريق بوسط باريس، الذي أطلق «وطنيون» منه في 12 تموز/ يوليو 1789 العصيان الذي أدى إلى سقوط الباستيل.
وكثر الجدل عند تأسيس المجلس الدستوري الفرنسي في سنة 1958 حول إذا ما كانت طبيعته سياسية أم قضائية؛ ويتكون المجلس الدستوري من تسعة أعضاء؛ يعين رئيس الجمهورية رئيس المجلس، والثمانية الآخرون يعينهم رئيس الجمهورية ورئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ لمدة تسع سنوات، إضافة إلى رؤساء الجمهورية السابقين الذين يحق لهم الانضمام إلى المجلس.
كما يتم تجديد ثلث أعضاء المجلس كل ثلاث سنوات من قبل رئيس الجمهورية ورئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ، كل واحد له الصلاحية في تعيين عضو واحد فقط؛ بالمقابل، لا يسمح لأي عضو في الحكومة أو في المجلس الاقتصادي والاجتماعي الفرنسي أن يكون عضواً في هذا المجلس لكي لا يكون هناك تنازع في الاختصاصات.
ومن بين الأعضاء الذين أتشرف بمعرفتهم وسبق وأن شارك معي في فاس في الملتقيات الفكرية التي أنظمها السيد ألان جوبي وهو من أبرز أعضاء هذا المجلس تجربة وعلماً كزميله لوران فابيوس؛ فقد شغل عدة مناصب سياسية ووزارية عليا أبرزها رئيس الحكومة في عهد الرئيس الراحل جاك شيراك؛ كما عاش جوبيه تجربة مريرة مع ملف التقاعد في سنة 1995، كما شغل مناصب عليا كوزير للخارجية في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي فضلاً عن منصب رئيس بلدية مدينة بوردو والتي أضحت في عهده من أجمل المدن الفرنسية؛ وهو قبل هذا وذاك استاذ جامعي خبر التدريس والبحث العلمي وألف عدة كتب قيمة.
المهم قام المجلس الدستوري بالمصادقة على إصلاح التقاعد الذي لا يلقى شعبية، ولا سيما على البند الأهم فيه والذي ينص على رفع سن التقاعد إلى 64 عاماً، مما أثار ويثير استياء المعارضة والنقابات اللتين تعهدتا بالاستمرار في محاربة مشروع بات رمزاً لولاية ماكرون الثانية؛ ولا جرم أن هذا الإصلاح سيضع الحزب الحاكم في مأزق سياسي وسيعمق غياب الثقة بين المواطن والدولة، وينذر بخرائط سياسية جديدة في الانتخابات المقبلة وسيفتح الباب للأحزاب اليمينية المتطرفة للوصول إلى الحكم.
والذي يجعلنا نقول هذا الكلام هو ما وقع بعد خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ أيام في محاولة منه لاحتواء غضب الفرنسيين. خطاب الرئيس لم يكن كافياً لتهدئة غضبهم، حيث اختار عدة آلاف منهم الرد عليه بقرع أواني طبخ فارغة للتعبير عن احتجاجهم. بدورها، لم تتأخر المعارضة الفرنسية عن انتقاد خطابه واتفقت رغم تنوع انتماءاتها الحزبية على أنه «منفصل عن الواقع « ولم يأت بجديد وغير كافٍ لوقف الاحتجاجات.
مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا صرحت بعد هذا الخطاب في سلسلة من التغريدات الفورية بأن ماكرون يمارس السلطة بطريقة «منفردة وسخيفة» وبأنه يعيش في عالم موازٍ.
وسارعت على حسابها على تويتر بانتقاد مضمون هذا الخطاب بطريقة لاذعة، حيث اعتبرت أنه يوحي بالاستمرار في عهده من خمس «سنوات من الازدراء واللامبالاة والوحشية « والتي يتوجب الخروج منها عبر صناديق الاقتراع.
وأضافت بأن إيمانويل ماكرون كان «يستطيع إعادة نسج خيوط التواصل مع الفرنسيين لو سحب خطة إصلاح نظام التقاعد أو أقر استفتاءً حول هذا المشروع. لكنه اختار مرة أخرى أن يدير ظهره لهم ويتجاهل معاناتهم»، قبل أن تختم بأن «الرئيس الفرنسي لا يزال عالقاً في عالم مواز، حيث إنه لم يتحدث عن التضخم الذي يخنق الفرنسيين ولا عن قدراتهم الشرائية المنهارة».