عبدالوهاب الفايز
ربما لن نحتاج أدوات التحليل السياسي لمعرفة الأوضاع في السودان. فالبلد يعاني من نكبات الحكم العسكري منذ الانقلاب الأول في الخمسينات وحتى (البرهان وحميدتي). بلد تلاحقه النكبات! أرضه سلة للغذاء.. ويستورد 80 بالمئة من القمح، والشعب في هجرة مستمرة!
للتأمل والأمل.. ربما نحتاج شيئا آخر، نحتاج زيارة جديدة لتاريخ الطيب صالح..
فاذا حل ذكر الراحل الكبير، رحمه الله، يتأتى بالضرورة حدثان: الأول استدعاء روايته الشهيرة (موسم الهجرة إلى الشمال)، والثاني استرجاع مقاله الشهير (من أين أتى هؤلاء؟) في مجلة المجلة بدايةً التسعينيات.. وكلاهما قطعة أدبية متميزة في إرثه الأدبي والصحفي. الرواية حملت روحه الشاعرية، والمقال قصيدة مفعمة بكل صور الشعر الأسى والألم على وضع بلاده السودان. وهو نفس الأسي والألم الذي نسترجعه هذه الأيام ونحن نرى هذا البلد يجدد الجراح والآلام منذ انقلاب العسكر الأول في الخمسينيات، فبعد أربعة عشر انقلابا عسكريًا ما زلنا نقول: متى يرحل هؤلاء؟
ومقال الطيب الشهير حظي وقتها بالانتشار ثم الاشتهار لأنه عبر عن وجدان الناس في تلك الحقبة. عندما أقدم البشير على إعدام خصومه كان الحدث حينئذ صدمة. لقد تعود الناس على اضطراب الأوضاع الأمنية والسياسية في السودان، وتعودوا على مماحكات وصراعات الأحزاب، وكان الأخوة السودانيون بارعين في إنتاج (النكتة السياسية) عن هذه الأوضاع، وكان هذا أقصى الخصام. كانت الروح الكبيرة الصبورة تتسامى على الآلام. لم يتوقع الناس تطور الصراع إلى الدموية. لذا، وعندما خرج مقال الطيب صالح يحمل السؤال الكبير: من أين أتى هؤلاء؟، كأنه انتزع السؤال من الوجدان الشعبي العربي! يقصد بهؤلاء طبعا القيادات العسكرية الإخوانية التي قفزت إلى السلطة.
الطيب صالح.. ابن قرية كرمكول من شمال السودان، تميز بعشقه لبلده رغم الغربة والهجرة إلى الشمال البارد، وتفوق في حبه لأهله. الشاعر سيد أحمد الحردلو قال عنه في قصيدة: «اسمك صار وطناً».
في المقال الشهير تتجلى الذائقة الشعرية للطيب صالح، فالمقال قصيدة نثرية ألهمت الفنانين والشعراء، والكتاب.. فقد كتبت قصائد من وحي المقال، خرجت الأغاني والأناشيد، ومن اجملها قصيدة فيصل عبدالحليم التي غنتها السودانية نانسي عجاج والتي منها:
يا ليتّهُم...
وبنفسِ قوةَ بطشِهم
بِالأبرّياء...
بطّشوا بمنْ سرّقَ الرّغيفَ
مِن الجِيّاعْ
أو ليتّهم وبِنفسِ نْهمتَهُم
على سفكِ الدِماءْ
إسترّجعوّا شِبرّاً
مِن الوطنِ المُضاعْ
لكِنّهم - ولِبؤسهم -
هُم نفسْهم
من أوردوا الناسَ
المهالِك والمذّلة
بِالخِداعْ).
ومقال الطيب قصيدة أخرى وهي الأروع. مما جاء فيه: (السماء ما تزال صافية فوق أرض السودان، أم أنّهم حجبوها بالأكاذيب؟ هل مطار الخرطوم لا يزال يمتلئ بالنّازحين؟ يريدون الهرب إلى أيّ مكان، فذلك البلد الواسع لم يعد يتّسع لهم.
كأنّي بهم ينتظرون منذ تركتهم في ذلك اليوم عام ثمانية وثمانين.
يُعلَن عن قيام الطائرات ولا تقوم. لا أحد يكلّمهم. لا أحد يهمّه أمرهم .هل ما زالوا يتحدّثون عن الرخاء والناس جوعى؟ وعن الأمن والناس في ذُعر؟ وعن صلاح الأحوال والبلد خراب؟
الخرطوم الجميلة مثل طفلة يُنِيمونها عُنوةً ويغلقون عليها الباب، تنام منذ العاشرة، تنام باكية في ثيابها البالية، لا حركة في الطرقات. لا أضواء من نوافذ البيوت. لا فرحٌ في القلوب. لا ضحك في الحناجر. لا ماء، لا خُبز، لا سُكّر، لا بنزين، لا دواء. الأمن مستتب كما يهدأ الموتى.
نهر النيل الصبور يسير سيره الحكيم، ويعزف لحنه القديم «السادة» الجدد لا يسمعون ولا يفهمون.
يظنّون أنّهم وجدوا مفاتيح المستقبل. يعرفون الحلول. موقنون من كل شيء.
يزحمون شاشات التلفزيون وميكرفونات الإذاعة.
يقولون كلاماً ميِّتاً في بلدٍ حيٍّ في حقيقته، ولكنّهم يريدون قتله حتى يستتب الأمن.
مِن أين جاء هؤلاء النّاس؟ أما أرضعتهم الأمّهات والعمّات والخالات؟
أما أصغوا للرياح تهبُّ من الشمال والجنوب؟
أما رأوا بروق الصعيد تشيل وتحط؟
أما شافوا القمح ينمو في الحقول، وسبائط التمر مثقلة فوق هامات النخيل؟
أما سمعوا مدائح حاج الماحي وود سعد، وأغاني سرور وخليل فرح وحسن عطية والكابلي والمصطفى؟
أما قرأوا شعر العباس والمجذوب؟
أما سمعوا الأصوات القديمة وأحسُّوا الأشواق القديمة، ألا يحبّون الوطن كما نحبّه؟
إذاً لماذا يحبّونه وكأنّهم يكرهونه، ويعملون على إعماره وكأنّهم مسخّرون لخرابه؟
أجلس هنا بين قوم أحرار في بلد حرٍّ، أحسّ البرد في عظامي واليوم ليس بارداً. أنتمي إلى أمّة مقهورة ودولة تافهة. أنظر إليهم يكرِّمون رجالهم ونساءهم وهم أحياء، ولو كان أمثال هؤلاء عندنا لقتلوهم أو سجنوهم أو شرّدوهم في الآفاق.
من الذي يبني لك المستقبل، يا هداك الله، وأنت تذبح الخيل وتُبقي العربات، وتُميت الأرض وتُحيي الآفات؟
هل حرائر النساء من «سودري» و»حمرة الوز» و»حمرة الشيخ» ما زلن يتسولنّ في شوارع الخرطوم؟
هل ما زال أهل الجنوب ينزحون إلى الشمال وأهل الشمال يهربون إلى أي بلد يقبلهم؟
هل أسعار الدولار ما تزال في صعود وأقدار الناس في هبوط؟ أما زالوا يحلمون أن يُقيموا على جثّة السودان المسكين خلافة إسلامية سودانية يبايعها أهل مصر وبلاد الشام والمغرب واليمن والعراق وبلاد جزيرة العرب؟
من أين جاء هؤلاء الناس؟ بل - مَن هؤلاء الناس؟).
هذا المقال الخالد للراحل الطيب صالح، كأنه كتب لكل الازمنة العربية، والسودانية خاصة. عندما كنت رئيسًا لتحرير مجلة (المجلة) وكان الطيب صالح أحد كتابها الرئيسيين في زاويته الشهيرة (في أفق بعيد)، وعندما داهمه الفشل الكلوي اتفقنا مع رفيق دربه واحد كتاب المجله الدكتور محمد الشوش على إستمرار الزاوية، بحيث يتولى اختيار مقالا بديلا سابقا، وفعلا مضت شهورًا ونحن ننشر المقال، وظل القراء يستمتعون به ولديهم الانطباع انهم يقراونه لأول مرة. أوضاع السودان لن تتبدل اذا بقي العسكر يتقاتلون على السلطة، ومعهم 200 حزب سياسي متناحر!
نعم: ليتهم يرتون من خمرة الحكم.. ثم يرحلون!