د.سالم الكتبي
من بين كثير من الخطوات والتطورات التي تستهدف التخلص من هيمنة الدولار، رمز القوة والهيمنة الأمريكية على العالم، يبرز اتفاق البرازيل والصين على استخدام عملتيهما المحليتين في التبادلات التجارية بين البلدين بدلاً من الدولار. هذا الاتفاق المهم للغاية، يؤكد مضي الصين في ضم المزيد من الدول إلى مربع الدول التي تتعامل باليوان والعملات المحلية في التجارة الخارجية، كما تنبع أهميته أيضاً من مكانة الطرفين الموقعين عليه، فالصين هي ثاني أكثر اقتصاد في العالم، بينما تعتبر البرازيل أكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية، وتبلغ قيمة التبادلات التجارية للبلدين في عام 2022 نحو 150 مليار دولار.
المسألة هنا ليست اقتصادية فقط بل تشمل أبعاداً إستراتيجية أخرى، فتراجع النفوذ الأمريكي اقتصادياً وسياسياً بات ظاهرة واضحة لا يختلف عليها اثنان من المحللين، وهذا بحد ذاته مؤشرٌ مهمٌّ لبداية تشكُّل نظام عالمي جديد.
السؤال الأكثر إلحاحاً هنا يتعلق بالوقت الذي يمكن أن يستغرقه بناء نظام عالمي جديد، وملامح هذا النظام والقوى المسيطرة عليه، وهنا يمكن الإشارة إلى أن أي نظام عالمي ساد العالم في فترات سابقة، قد تشكل عقب أزمات كبرى، حيث أسهمت نتائج هذه الأزمات في تشكيل ملامح هذا النظام، وتأطير ملامحه وتحديد القوى الفاعلة فيها، مثلما حدث في الحربين العالميتين، الأولى والثانية، ولكن الحاصل في المرحلة الراهنة يعد تجربة نوعية تختلف عن سابقاتها في مراحل تاريخية ماضية، حيث يتشكل النظام العالمي على وقع مواجهات غير مباشرة وحروب باردة وأزمات معقدة في مجالات أخرى ليس من بينها المجال العسكري، مثل أزمة تفشي وباء «كورونا» والحرب بالوكالة التي يخوضها الغرب بقيادة الولايات المتحدة ضد روسيا في أوكرانيا، وكذلك صعود النفوذ الصيني المتسارع، اقتصادياً، وتكنولوجياً، وسياسياً.
في ضوء ماسبق يصعب التكهن بالفترة الزمنية التي يمكن أن يستغرقها بناء نظام مابعد أوكرانيا، حيث تتوقف هذه الفترة على نتائج الصراعات والمنافسات الدائرة على جبهات شتى، فهناك صراع لتقليص هيمنة الدولار الأمريكي، وهناك حرب تجارية شرسة بين الصين والولايات المتحدة للسيطرة على قطاعات التكنولوجيا المتقدمة، ولاسيما في مجال الرقائق وأشباه الموصلات، وهناك المواجهة الروسية ـ الأطلسية غير المباشرة على أرض أوكرانيا، وهناك التنافس الإستراتيجي المحتدم بين القوى الدولية الكبرى في إفريقيا وغيرها من مناطق الصراع والنفوذ.
الفترة الزمنية اللازمة لإقصاء الولايات المتحدة بشكل كامل عن مقعد القيادة لا تزال بعيدة، فعلى المستوى الاقتصادي، نلحظ أن نحو 60 % من اقتصادات العالم لا تزال تستخدم الدولار للاحتفاظ باحتياطات مالية، بينما لا يزال أغلب التجارة العالمية تجري بالدولار، وعلينا أن نتذكر جيداً أن الصين هي الحائز الأكبر عالمياً من احتياطات الدولار الأمريكي، وهذا له دلالة مهمة تتعلق بمدى إلحاح الصين على إقصاء الدولار عن موقعه المهيمن عالمياً كعملة احتياطات مالية، حيث يمكن أن تكون هذه الخطوة في غير مصلحة بكين إن جاءت في توقيت لا يتماشى مع حسابات الصين في هذا الشأن.
أما ملامح القوى المسيطرة على النظام العالمي المرتقب وشكل هذا النظام، سواء من حيث كونه قائماً على قطبية ثنائية، أم تعددي، أم قائم على قطب واحد مهيمن مثلما عليه الحال منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق وحتى الآن، فهذه جميعها تبقى سيناريو مفتوحاً يصعب القطع به في ظل التفاعلات الدائرة دولياً وصعوبة التكهن بمساراتها ونتائجها خلال السنوات المقبلة، ولكن المؤكد أن قوى دولية كبرى مثل الصين بالإضافة إلى القطب المهيمن حالياً وهو الولايات المتحدة تحتفظان بمقعدين على خارطة هذا النظام المرتقب، ولو لفترة انتقالية، بحيث يمكن القول إن الخارطة ستتشكل اكتفاءً بهما كقطبين متنافسين، أو بانضمام أقطاب دولية أخرى لبناء نظام متعدد الأقطاب.
بلاشك أن مراكمة خطوات الحد من نفوذ الولايات المتحدة برموز قوتها المتنوعة، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، قد يُعجّل بوضع ركائز نظام عالمي جديد، ولكن يبقى توقيت حدوث ذلك رهن وتيرة وتأثير هذه التراكمات، فضلاً عن مستوى وحجم ردود الفعل الأمريكية المرتبطة بشكل وثيق بالحفاظ على القوة والنفوذ والهيمنة على النظام العالمي.