يعرّف التراث العمراني بأنه: كل ما شيّده الإنسان من مدن، وقرى، وأحياء، ومبانٍ، مع ما تتضمّنه من فراغات، ومنشآت، وقطع لها قيمة تراثية عمرانية، أو تاريخية، أو علمية، أو ثقافية، أو وطنية.
ولأن المملكة هي موطن الحضارات والنشاط البشري منذ آلاف السنين، فإنها تزخر بكثير من مواقع التراث العمراني، الثرية بجمال محتوياتها وتنوّع طرزها العمرانية والمعمارية من منطقة إلى أخرى.
ومن بين هذه المواقع أبهرت مدينة الرياض بجمال عمارتها كثيرًا من الأجانب الذين زاروها خلال القرن العشرين الميلادي، ومنهم البريطاني هارولد ديكسون وزوجته فيوليت، اللذين زارا الرياض عام 1937م، بعد تقاعده من منصب الوكيل السياسي لبريطانيا في الكويت في العام الذي قبله، ليعمل ممثلًا محليًّا أعلى لشركة نفط الكويت.
انطلق ديكسون من الكويت إلى الرياض، في زيارة وثّقها ونشرها بعد ذلك في كتابه "الكويت وجاراتها"، الذي دوّن فيه ما شاهده وزوجته في أثناء إقامتهما في الرياض لمدة أربعة أيام، التقوا فيها الملك عبدالعزيز وعددًا من الأمراء، كما التقت فيوليت الأميرة نورة بنت عبدالرحمن وبعض زوجات الملك، وأعجبت بكرم الضيافة وحسن الاستقبال.
نسلّط هنا الضوء على مشاهدات ديكسون وزوجته ووصفهما ما شاهداه من التراث العمراني (القصور والمباني).
كانت أولى المشاهدات على الطريق إلى الرياض هي "قرية العليا"، إحدى المدن التابعة حاليًّا للمنطقة الشرقية، وصفتها فيوليت بأنها بيوت مصنوعة من الطين، وتشكّل قرية صغيرة فيها عدد من أشجار الأثل بين البيوت.
وعندما اقتربا من الرياض وصفتها فيوليت من بعيد بأنها قلعة كبيرة ذات أبراج ترتفع فوق الأسوار، وتظهر أعالي الأبنية فوق الأسوار والأبراج، وإلى يسار ذلك كان هنالك عمودان للاسلكي (جهاز البرق). ولما دخلت الرياض أدركت أن ما شاهدته من بعيد هو قصر الملك الجديد (قصر المربع حاليًّا).
دخلوا الرياض، وبتوجيه من الملك توجّهوا مباشرة إلى قصر البديعة. وقد أعجبت فيوليت بجمال ذلك القصر وتفاصيله، فقد وصفته وصفًا دقيقًا، وذكرت بأنه يشغل ثلثي المساحة تقريبًا، أما الباقي فقد ترك للسيل الذي يأتي عندما تهطل الأمطار. وقد أقام الملك تحت سور الحديقة عند مقدمة القصر مجلسًا صغيرًا لصنع القهوة وشربها فيه وقت الأمطار، ويتمتّع بمنظر السيل. واستشهدت بالمثل العربي لهذا المنظر: "ثلاثة أشياء تفرح قلب الإنسان: الماء، والخضراء، والوجه الحسن".
أكملت وصفها لأقسام القصر، وأنه يتألّف من قسمين تمتدّ الغرف على جانبيهما في الطابقين السفليّ والعلويّ، وقسم آخر أصغر للخدم، وخُصِّص الجناح الأعلى من القسم الأول للسيدات، وفي غيابهنّ يشغله كبار الضيوف. أما القسم الثاني فيقيم فيه الملك ويصرّف أعماله، ويستقبل فيه الشيوخ والبدو في الصيف.
ووصفت كذلك الطابق العلوي، وحرصت على ذكر التفاصيل المعمارية بدقة، فذكرت أن في الطابق العلويّ شرفةً عرضها اثنا عشر قدمًا، وتمتدّ على مدار المساحة. وتدعم تلك الشرفة أعمدة حجرية مغلّفة بالجصّ الأبيض، وبين كل عمودين من تلك الأعمدة تقف ثلاث ركائز خشبية صفراء باهتة، رسمت عليها خطوط ونقط وأشكال باللونين الأحمر والأسود. ويقفل الشرفة جدار مصنوع من الجصّ والطين، ارتفاعه نحو ستة أقدام يبدو أعلاه مثل رؤوس وأكتاف لصفٍّ طويلٍ من الرجال، يقف كلّ منها فوق فتحة مثلثة الشكل بين الأعمدة المستديرة العالية المصنوعة من الحجر والجصّ، التي تدعم سقف الشرفة. وفي كل جهة فتحة كبيرة تسمح للخدم بأن يمدّوا رؤوسهم منها لدعوة سقاة القهوة في الطابق السفلي.
وصنعت جميع الركائز من الخشب، وأقيمت كل ثلاث منها بين عمودين، لتدعم فروعًا أصغر من سقف الشرفة المغلّف بأوراق البردي والطين. وأغلب تلك الركائز مغطّاة بقماش أبيض يتدلّى من السقف، وزيّنت تلك الركائز المدعّمة بالأعمدة بحسب الزيّ النجديّ الحقيقيّ برسوم من الخطوط والنقط باللونين الأحمر والأسود على قاعدة صفراء اللون باهتة، كما زيّنت هذه الركائز في النوافذ والأبواب الصغيرة، وحتى في غرفة الغسيل.
وداخل الغرف الكبيرة عمودان مستديران في الوسط يدعمان السقف. أما الجدران فهي مطلية بالجصّ الأبيض، وعليها حلقات أو دوائر مختلفة الشكل، وصفت فيوليت طريقة صنعها فقالت: تُغلَّف الجدران أولًا بطبقة خفيفة من طين أسمر قاسٍ، فوقها جصّ أبيض سماكته ثلث بوصة. ثم تقوّم تلك الأشكال وحينما لا يزال الطلاء رطبًا، ويعمّق الحفر في الخطوط حتى الطبقة الطينية. وفي كثير من الأحيان تترك مسافة بين سلسلة من الرسوم والسلسلة الأخرى. إذ ترتفع الرسوم الأولى ثلاثة أقدام عن الأرض. وتتغيّر النماذج حول النوافذ والرفوف الضيقة المحفورة في الحائط. ووضعت فوق سلسلة الرسوم الأفقية دوائر كبيرة منفردة مقطّعة بأشكال هندسية مختلفة، لا يتشابه فيها اثنان. وقد أعجبت فيوليت جدًّا بمنظر هذه الزخارف.
كما وصفت الأثاث والمناطق التي جلب منها: فالستائر الحريرية جلب قماشها من أسواق الكويت، والمقاعد الخشبية والصوفات من بغداد، والسجاجيد العجمية من كل حجم ولون، وقماش السقف في غرفة الاستقبال الرئيسة مزيّن برسوم ملوّنة من الحرير على شكل أقمار ونجوم ودوائر صغيرة وكبيرة.
ووصفت كذلك القسم المخصّص للخدم: في إحدى زواياه المكشوفة وِجَار مستطيل لصنع القهوة، وأما أبواب الغرف فطليت بأصباغ حمراء وسودء وزرقاء وصفراء وخضراء بأشكال مختلفة، فصارت تشبه الموزاييك، وكلّ مربع صغير أو مثلّث يختلف عن ألوان تلك الأخرى المحيطة به. وللأقسام العليا والسفلى والوسطى من الأبواب إطارات خشبية بارزة ملوّنة على شكل مربعات كبيرة. أمّا الأبواب الصغيرة مستوية السطح فقد حُفِرَت فيها الرسوم حفرًا عميقًا قبل طلائها بالألوان. وأشارت إلى أن أحسن تلك الأبواب كانت من صنع القصيم، أما تلك المصنوعة محليًّا فرسومها تشبه تلك التي على الركائز الخشبية، وفيها كتل قرمزية وسوداء. ولكل باب قفل، وله مفتاح خشبي على شكل فرشاة الأسنان، ويدخل في القفل على حافته، وعند فتحه يتوجّب دفع عددٍ مماثلٍ من الأسنان إلى أعلى. أما النوافذ فتفتح كلها إلى الداخل، وزيّنت وطليت من الخارج برسوم بسيطة قليلة العدد، مثلما زينت الأبواب وطليت من الداخل. كما وصفت فيوليت إحدى الشرفات في الطابق العلوي بأنها مؤثّثة بسجاجيد عجمية، وفي سقفها مروحة كبيرة، وعلى أحد جدرانها ساعة (بومباي) كبيرة، تواجه مقعد الملك الخاصّ. وبلصقها غرفة يصلي الملك فيها ويرتاح، مفروشة على الطراز العربي بأرائك ومساند على دائر الغرفة، وفي إحدى الجهات ما يشبه العرش، وحوله من كل جهة مسندان مربّعان تغطي كلًّا منهما ثلاثة مساند صفراء موصولة بعضها ببعض مغطّاة بالحرير. وكان قماش السقف أكثر دقةً وطموحًا منه، فعليه صورٌ لأباريق القهوة والشاي مزيّنة بالحرير الملوّن وبأعداد كبيرة من الأقمار والنجوم والدوائر. وهناك درج سهل طويل له مدخل خاصّ يستخدمه الرجال فقط، ويعزل البناءَ عن المبنى المجاور الذي تستخدمه النساء.
ووصفت أيضًا السطح والمكان الذي يتناول فيه الملك الطعام في الصيف، بأنه مقصف مغلَق يدعمه عمودان طويلان يرتفعان عن الأرض ثلاثة أقدام، وتذكر أنها عندما شاهدت تلك الأعمدة كان لونها قد انطمس لكثرة ما علق بها من الدسم بعدما تقع عليها أيدي الضيوف بعد الطعام، وفيها عمود أو اثنان عليهما خشبتان متقاطعتان تعلّق عليها المصابيح. وأيضًا عمود خاصّ عليه حبال لتعليق قرب الماء في الهواء الطلق لتبريدها. وفي نهاية وصفها لقصر البديعة ذكرت أنه على الرغم من أن هناك قسمًا أقدم من آخر في القصر إلا أنها جميعها بنيت بالهندسة نفسها تقريبًا. وجميعها يستقبل الملك فيها الشيوخَ والأعيانَ.
وصفت فيوليت بعض المنازل التي شاهدتها في مدينة الرياض، وأن معظم المباني مؤلّف من طابقين، فذكرت أن بعضها مظلم غامض من الخارج، وهي ذات جدران عالية من الطين، وتقوم على جانبي الشوارع الضيّقة المتعرّجة، ولها أبواب خشبية بسيطة، وليس لها نوافذ تطلّ على الشوارع عدا بعض البيوت التي وضعت في الطابق العلوي منه نافذة واحدة ذات قضبان حديدية من الداخل. وقد ذهبت فيوليت وزوجها للقاء الملك في قصره، المعروف اليوم بـ"قصر الحكم"، الذي كان الملك يقيم فيه قبل انتقاله إلى قصر المربع، فوصفت الطريق المؤدّي إلى القصر، وقالت: وبعد أن قطعنا شارعًا ضيقًا مستقيمًا وجدنا أنفسنا فجأة أمام قصر الملك في السوق الكبير، وكانت الساحة مزدحمة بالرجال والجمال، وعلى مقعد طويل كان يجلس أولئك الذين ينتظرون دورهم لمقابلة جلالته. ثم انطلقنا عبر الساحة إلى جانب القصر، حيث يقوم باب كبير تحت جسر عريض.
وهناك ترجّلنا فساروا بنا إلى الداخل عبر عدّة باحات، كان بعضها يضمّ خيولًا يستخدمها أفراد العائلة المالكية. وصعدنا درجًا هيّنًا، ثم مشينا الممرات والشرفات إلى أن أدخلنا الى غرفة كبيرة فارغة، ولم يظهر أحد لمدة خمس دقائق، فأعطاني ذلك فرصة لإلقاء نظرة من حولي، فرأيت عمودين يقفان وسط الغرفة يدعمان السقف مع عوارض خشبية ذات رسوم كتلك التي وصفناها في قصر بديعة، والأرض مغطاة بسجاد عجمي من نوع كرمان، وعلى دائر الغرفة كانت هنالك مساند مربعة الشكل ذات أغطية قطنية زرقاء مطرّزة الأطراف. وفي إحدى الزوايا ينتصب وِجار القهوة، وفيه بعض الجمر، عليه إبريقان: واحد للقهوة، والآخر للشاي. وعلى الحائط فوق الوِجار عدد من الرفوف، وُضع على أحدها جنبًا إلى جنب صفان من أباريق القهوة النحاسية المصقولة ذات اللمعان، بالحجم نفسه تقريبًا. وتحت ذلك كان هنالك رفّان آخران عليهما أباريق بلورية ذات ألوان أزهى. وعلى الأرض كانت فناجين القهوة وكاسات الشاي جاهزة للاستعمال. وفي إحدى الزوايا كان هناك فراش ملفوف وكأنَّ أحدًا كان ينام فيه أو يستريح عليه. ولتلك الغرفة بابان: واحد في إحدى الزوايا، والآخر يقابله في الوسط، ولها أيضًا ثلاث نوافذ.
وقد سردت تفاصيل لقائها بزوجات الملك عبدالعزيز، وما دار من حديث بينهنَّ، وتفاصيل الضيافة التي استقبلت بها وقدّمت إليها.
وبعد هذه الزيارة في اليوم نفسه زارت الأميرةَ نورة بنت عبدالرحمن، التي كانت قد تشوّقت لزيارتها في قصرها، وأول ما شاهدته أمام قصرها وجود كميات من الطوب حوله معدّة لبناء الجناح الجديد الكبير. ثم أخذت تصف داخله، حتى جاء خادم صغير يرشد سائقها إلى المدخل، حيث ترجّلت من السيارة، "ولدى عبور المدخل اتّجهنا قليلًا إلى اليسار، فوجدنا أنفسنا تحت شرفة ذات أعمدة تحيط بساحة صغيرة، وكان في استقبالنا عدّة نساء، فتبادلنا التحيات العربية المعهودة، وجلسنا على السجاد واتكأنا على مساند كبيرة تمتدّ على طول الحائط".
ثم تصف لقاءها بالأميرة نورة وإعجابها بشخصيتها، وذكرت أنها طلبت منها مشاهدة البوابة الكبرى لقصر المصمك، لترى أثر رأس الرمح التي ما زالت مغروزة فيه. وأن الملك عبدالعزيز قد ضحك واستغرب من معرفة فيوليت بهذه المعلومة، عندما أخبرته الأميرة نورة بطلبها، وأشار عليها بأن تطلب منها أن تزور قصره الجديد.
ومن الأماكن التي ذكر ديكسون أنه زارها هو وزوجته إبان إقامتهما فيها، أنهما تجوّلا في أرجاء المدينة وضواحيها دون أن يعترضهما أحد. كما زارا مدينة الدرعية القديمة عاصمة الدولة السعودية الأولى، ومحطتي الإذاعة، ومحطة توليد الكهرباء، وقصر الشمسية الفخم، ومضمار السباق، وقصر المصمك، والأسواق.
ويذكر ديكسون أن الملك لما سمع بجولاته سأله: هل زرت الدرعية؟ فأجاب بنعم، فسمح له بالتقاط الصور الفوتوغرافية حيثما شاء، كما سأله عن رغبته في زيارة الهفوف والقطيف لمشاهدة آبار النفط هناك، وأخبره أنه أرسل إلى ابن جلوي [أمير الأحساء] أن يعدّ الترتيبات اللازمة لاستقباله، لكن ديكسون اعتذر بأن وقته محدود لا يسمح له بالزيارة.
وتأتي أهمية هذه الزيارة، علاوة على ما قدّمته من وصف دقيق، من أن ديكسون التقط كثيرًا من الصور، ورسم عدّة رسومات، منها رسمه ساحةَ الصفاة، والرواق العلويّ لقصر البديعة، وتفاصيل الزخارف بألوانها التي كانت في قصر البديعة. كذلك تعدّ هذه الرحلة مصدرًا مهمًّا لتوثيق تراثنا وتاريخنا الاجتماعي خلال حقبة زمنية مهمّة.
واليوم تشهد هذه المواقع والعديد من مواقع التراث العمراني اهتمامًا كبيرًا توليه لها الحكومة السعودية، بتوجيهات قيادتنا الرشيدة وذلك بالمحافظة عليها وإعادة ترميمها وابرازها لأنها تعزز وتنمي روح الانتماء والهوية، ولتكون عامل جذب سياحي للملكة العربية السعودية.
** **
- ليلى بنت محمد القحطاني