رمضان جريدي العنزي
الحياة مجموعة تجارب وخبرات متراكمة، مثل المدرسة الكبيرة التي يتعلّم فيها الإنسان كل شيء، فالحياة ليست راكدة وليست على رتم واحد، ولها تقلّب وتغيّر وتبدّل دائم ومستمر، مثل تعاقب الليل والنهار، وتبدل الفصول الأربعة، لها مبتدأ ولها خبر، ولها قصص قصيرة، وروايات طويلة، أحداث ومواقف، أحزان وأفراح، وفاء وجحود، فشل ونجاح، سعادة وشقاء، غنى وفقر، صحة ومرض، تروٍّ وتهور، شدة ورخاء، نفاق ورياء وإزدواجية مقيتة، علمتني الحياة بأن لا أحكم على الأشخاص من خلال لباسهم ومظاهرهم وما يملكون، بل من خلال سلوكهم وأخلاقهم وتعاملهم، عقولهم وحكمتهم وثباتهم، علمتني الحياة بأن هناك الكثير الذي يقول ولا يفعل، مظهره غير مخبره، وظاهره غير باطنه، علمتني الحياة بأن هناك من يعش بوجهين، ومن يعش بأكثر من وجه ولون وشكل، يعيث مع الذئب، ويبكي مع الراعي، ظاهرياً تحسبه من أصحاب الورع والتقى، لكنه في الحقيقة يبرم عقداً خاصاً مع الشيطان الرجيم، يدّعي الأمانة والنزاهة، وهو الفاسد حد النخاع، يتقن فن التملّق والتقرّب الرخيص، ويبرع في تمثيل المسرحيات العبثية، وفي المقابل هناك من هو نبيل وجميل وأنيق في التعامل والأخلاق والسلوك، وله أياد بيضاء على الناس براً وإحساناً وعوناً ومساعدة، علمتني الحياة بأن هناك من يبحث عن الضوء، ومن يبحث الضوء عنه، من يبحث عن اللقب، ومن يبحث اللقب عنه، فالفاشل يبحث عن مسمى ولقب، والناجح لا يحتاج إلى لقب ولا تعريف، هناك من تشرئب له الأعناق، وتراه ملء القلوب والعقول والأسماع، وهناك من هو عكس ذلك لا يعرفه سوى أهل بيته وظله، وحدهم الواثقون من أنفسهم يملكون وجوداً حقيقياً، فهم بالتالي لا يحتاجون إلى التزويق والتنميق، وإضفاء الصفات والنعوت، وحدهم الكسيحون في الحياة علمياً واجتماعياً من يبحثون عن تلك الصفات والمسميات والنعوت، علمتني الحياة بأن هناك طفيليين وانتهازيين وطماعين، لهم حيل وألاعيب وطرق كثيرة ومتشعبة يعملون وفقها حسب الحاجة والمصلحة، هناك من هو نكرة، ومن هو معرفة، وشتان بين الاثنين، علمتني الحياة بأن هناك من يجعل الكذب وسيلة في تعامله مع الآخرين، وهناك من يجعل الصدق مع الآخرين سبيله وطريقته وديدنه، هناك من يعيش الفوقية والتعالي والانتفاخ الكبير، وهناك من يعيش التواضع والثقة والركادة، علمتني الحياة أن لا أحكم على الناس من خلال ملامحهم البدنية، ولكن أحكم عليهم من خلال ما يحملونه من مبادئقيم، وما يعانونه من كدح ومشقة وما يبذلونه في الواقع الحياتي، علمتني الحياة أن (الذاتيين) تتجلَّى في حساباتهم الدقيقة أرباحهم ومكاسبهم في كل ما يقدمون عليه من خطوات وقرارات ولا يهمهم الآخر، وهناك من يتطلع إلى روح الإحساس بالآخر من منطق إنساني راق ونبيل، هناك من يعتبر المنصب فرصة لاحتلاب المغانم، وهناك من يجعل المنصب فرصة لخدمة الناس، ولكي يترك أثراً حسناً تبقى آثاره يتداولها الناس حمداً وشكراً، علمتني الحياة بأن هناك من هو حريص على سمعته بين الناس وطموح لأن يبقى محترماً ومحبوباً عندهم، وهناك من لا يبالي بسمعته بين الناس لا يهتم ولا يكترث ولا يبالي، علمتني الحياة أن لا أصدق أي شيء أسمعه أو أقرأه إلا بعد التدقيق والتمحيص والتأكد وتفعيل العقل والمنطق، علمتني الحياة أن لا أمارس الفوقية والتعالي، وأرفض الكبر والبطر، والنفاق والرياء والتلوّن، وأنبذ العنصرية بكافة أشكالها وألوانها ومسمياتها، لقد علمتني الحياة الكثير والكثير والكثير والذي لا حصر له، لا سقف له ولا حد، خضت التجارب الكثيرة، حتى تراكمت لدي الخبرات العديدة، يقول الشاعر سالم بن مهاوش الحربي:
أنشد مجرب والتجارب وثيقة
تجارب الأيام بذت خفايه
ما هي تجارب يوم ولا دقيقة
شفنا من الدنيا ما فيه الكفايه
ويقول الشاعر سعيد بن فالح المهداني القحطاني:
الإنسان لامن خذا له فالزمن دوره
تظهر له أسرار بقعا من ضمايرها
والإفكار ما هي لبعض الناس محصورة
من يبغى الطيبة يرقى منابرها
والسلعة اللي بوسط السوق منظوره
اسعارها ما تعدى عن نظايرها
لولا التجارب وحزن الوقت وسروره
كان استوى صاحي العالم وبايرها