منيرة أحمد الغامدي
أكثر ما يعجبني في السفر هو القدرة على اكتشاف المدن مشياً على الأقدام وقد تبدأ رحلتي وتنتهي دون استخدام السيارة على الاطلاق. وكان الآخرون يتعجبون من ردي حين يسألون عن أكثر من يعجبني في السفر وأشير إلى المشي في الشوارع والتوقف في مقهى في شارع خلفي أو الإفطار في مطعم عتيق، وكنت كلما عدت من سفر فإن المشي هو أول ما افتقد.
كان حتى سنوات قلائل حلما أن تمشي في شوارع مدينة الرياض، وشخصيا ولقرب إحدى الصيدليات من بيتي حاولت قبل سنوات قلائل أن أذهب إليها مشياً وهي مسافة يمكن لي قطعها في خلال عشر دقائق على أكثر تقدير في أي مدينة متحضرة في العالم إلا أنني ندمت على اللحظة التي قررت فيها ذلك فأبواق السيارات المزمجرة تذمراً وغضباً من المشي على الشارع لعدم توفر الأرصفة انهالت علي من كل حدب وصوب حتى خلتني في إحدى الدول العربية الشقيقة والمعروفة بمعزوفة أبواق السيارات حتى بدون سبب واضح.
خلال هذه الفترة ولجمال الطقس في الرياض وللرغبة في حرق بعض سعرات الكنافة الحرارية قررت المشي إلى مسافة أبعد من تلك الصيدلية ولكم أن تتخيلوا أني مشيت على نفس الخط السابق لأكثر من ساعة ولكن هذه المرة على أرصفة تضاهي أرصفة أجمل مدن العالم دون أبواق ودون أدنى مستويات الازعاج حتى وصلت وجهتي وعدت أدراجي لبيتي.
ليس المشي وحده هو ما كنا نفتقد في مدينة الرياض فالطرق الآن سالكة للمشاة وللدراجين وخلال مروري كانت محطات النقل منتشرة بامتداد الشوارع مزودة بالمقاعد الجميلة والمريحة والمظلات ومواعيد الرحلات وربما لاحقاً أرصد تجربتي في استخدام وسائل النقل المتاحة.
أن تمشي في الرياض فتجد مجمعات مناطق الخدمة المنتشرة وبها أفضل وأرقى المقاهي والمطاعم المحلية والعالمية للتوقف لشرب كوب قهوة أو تتناول الإفطار، أو أن تمشي إلى مجمع التسوق القريب من بيتك في أحد أيام إجازة نهاية الأسبوع فتجده يعج بالناس وبالحياة والبهجة والأجواء العائلية المفرحة والعروض الترفيهية لهو شي كان ضمن الأمنيات وتحقق.
المشي في تصوري المتواضع ليس وسيلة الاكتشاف للمدن فحسب بل هو ما يصنع ذكريات المدينة الإنسانية على وجه الخصوص والمواقف التي ترصدها وأنت تمشي ليست كتلك التي تمر بها وأنت تركب السيارة، وهي مواقف وتجارب اما تضيف أو تنتقص من جودة الحياة في تلك المدينة وهي أحد العوامل المحددة لمدى ارتباطنا بتلك المدينة ومدى رغبتنا في العودة لها.
الفيلسوف الألماني فريدرك نيتشه ذكر أن «الجلوس أكبر خطيئة» محفزاً على المشي، وقد كان الأجداد يمشون في الصحراء وفي الحقول وكانت صحتهم اجمالا أفضل مما نحن عليه الآن، ولذا فإن في أنسنة المدن وجعلها قابلة لاستقبال الخطوات البشرية هو من أعظم ما يمكن ان تقدمه من جودة لحياة لساكنيها.
الرياض الآن تمنحنا حيادة أجود وأكثر بهجة والقادم أجمل حتى مع حرارة طقسها في بعض الأشهر فمدننا ستكون أيضا أكثر اخضرارا وهذا أيضا حلم آخر يتحقق وسنمشي أكثر لصحة بدنية وذهنية أكبر.
كثير من الفلاسفة والمفكرين كان المشي من عاداتهم اليومية وكانت أفكارهم تأتيهم في معظمها وهم يمشون، واحد الفلاسفة الألمان كان يمارس المشي يوميا في توقيت محدد حتى أن الناس في محيطه كانوا يضبطون ساعاتهم على خروجه من منزله في الساعة الرابعة والنصف من كل مساء، وربما نقترح ونحدد ساعة وطنية يومية نخرج فيها للمشي أفراداً وكعائلات وتكون «ساعة المشي» في الرياض أو في السعودية بامتدادها وفي كل مناطقها ومدنها الجميلة.