أحمد بن عبدالرحمن السبيهين
جيليت بورجس - مجلة «ريدرز دايجست» الصادرة في شهر يونيو 1943
لا توجد تجربة في الحياة أكثر متعة من مقابلة شخص للمرّة الأولى، وهذا لا يعني بالضرورة تقديمك للتعرّف على شخصية إعلامية شهيرة مثلاً، مع أن ذلك يمكن أن يكون مصدر سعادة كبرى إذا تمكّنتَ من إيجاد طريقة للحصول عليها من تلك المقابلة.
في إحدى الليالي الكئيبة في مطعم يبعث على الملل، سألتُ النادلة عمّا إذا كانت قد سئمتْ من مراقبة الزبائن وهُم يأكلون ويأكلون إلى ما لا نهاية!
فقالت: «أوه يا إلهي، لا.. فانا لا أعرف من سيأتي للجلوس على إحدى الطاولات التي أقوم بخدمتها، فالناس مختلفون جدّاً وأنا أحبّ مراقبتهم».
فسألتُها: «حتى لو كانوا سريعيّ الانفعال وكثيريّ التذمّر»؟
فأجابت: «بالتأكيد»، وضحكت وهي تكمل: «فأنا أتظاهر بأني كأني أشاهد ممثلين يقومون بأدوار معيّنة في أحد الأفلام هنا! وأنا أتعامل مع زبائني على هذا الأساس. صدّقني: الناس مثيرون للاهتمام».
هذه النادلة موهوبة حقّاً ولديها قُدرة على التفكير بموضوعية، فهي تستطيع الاستمتاع بمقابلة الناس، سواء كانت مرتاحة لرؤيتهم أم لم تجد فيهم ذلك الشعور. فعندما تكون لديك هذه النظرة الشاملة وغير المتحيّزة، فسترى أن كلّ شخص تقابله يقوم بدور معيّن، فقط للترفيه عنك! كذلك فإن لباقة بعض الأشخاص وغرابة أطوار البعض الآخر من الناس الذين تقابلهم كلّ يوم، يمكن أن ترى فيها مصدراً للتسلية، وكأنها مَشاهد في مسرحية من الطراز الرفيع!
من الطريف أن تنظر إلى الأشخاص الذين تقابلهم أحياناً، وحتى الأصدقاء منهم، بطريقة مختلفة وذلك حين تستطيع وضع إطار وهمي يحيط بشخصياتهم، ويفصلهم عن خلفيّاتهم الاجتماعية والعملية التي تغلّفهم من الخارج، فتحصل على صور جديدة لهم بعيدة عن أي تحيّز أو تحامل، وترى جوانب مدهشة في شخصياتهم لم تكن تلاحظها من قبل.
فنحن ربما نعرف شخصاً ما لسنين عديدة، ومع ذلك لا نعرف عنه إلا معلومات قليلة عن جوانب هامّة في شخصيته، فالألفة والتعوّد غالباً ما تجعلنا نتعامل مع الشخص بطريقة تلقائية سواء جيّدة أو سيئة، ونعامله بحكمة أو بحماقة، وفي النهاية نُحبّه أو ننفر منه بدون أن نعلم أسباب ذلك!
يبحث الكُتّاب والروائيون دائماً عن الشخصيات الفريدة من نوعها للكتابة عنها.. فهل تتصور مثلاً أن الشخصية الرئيسة في رواية (دييد كوبرفيلد) للكاتب (تشارلز ديكنز)، لم تكن في الواقع من الشخصيات المثالية في المجتمع؟ بل كانت على النقيض؛ مليئة بالعيوب والنواقص، ولكن تميّزها عن غيرها كان مُلفتاً للنظر.
حاول أن تجرّب بنفسك في المرّة القادمة، حين يتحتّم عليك مقابلة أحد الأشخاص المُضجرين، أن تدرس تعبيراته ونبرات صوته وإيماءاته، وكأنك تريد أن تضع شخصيته في رواية، فستُفاجأ بانقشاع الضباب الذي كان يحيط بعينيك، ويقف حاجزاً أمام تنبّهك للتفاصيل وفهم الشخصية الحقيقية التي أمامك للمرة الأولى.
ومع أن مجرّد مراقبة الناس لوحدها تبعث على التسلية، إلا أن ملاحظة اختلاف أساليبهم وسلوكهم تستحقّ الدراسة فعلاً، فلو أنك قمت بتفسير الخصائص الإنسانية التي ينفرد بها كلّ شخص من خلال تصرّفاته وردود أفعاله، لقضيت وقتاً ممتعاً أمام مَشاهد تثير الدهشة والتفكير.
جرّب أن تمدح شخصاً بطريقة صادقة ومفاجئة، وراقب ردّة فعله على ذلك، سترى أن ذلك ممتعاً وأشبه برؤية نتائج تجربة كيميائية في المعمل!
وفي المرّة القادمة حين تعطي أحدهم مالاً لأي سبب، لاحظ كيفية قبولهم إياه؛ هل كان بامتنان، أو بعدم اهتمام؟
وبإمكانك معرفة ما إذا كان المستلم بخيلاً أو مبذّراً؛ فحالما يحصل الطفل مثلاً على مصروفه، تراه ينطلق غالباً بقروشه المجلجلة مُسرعاً لصرفها.
ولو كان المال المدفوع لشخص ما تسديداً لقرض من صديقه لأخذَه بطريقة عادية، ولكن إذا كان لم يتوقّع إعادته إليه مُطلقاً فسيطبق بيده على المال في الحال ويدسّه في جيبه حرصاً عليه.
وفي الحقيقة لا يمكنك معرفة أحد بشكل جيّد إلا إذا ارتبطتَ معه بعلاقة شخصية، لأن الناس لا يظهرون على طبيعتهم للوهلة الأولى، ولكن توطيد العلاقة تدريجياً يكشف عن عملية أشبه ما تكون بإزالة الطبقات الملتفّة حول جسد إحدى المومياءات الفرعونية!
فكلّ ما يتفوّه به الشخص يُسفر جزئياً عن شخصيته الحقيقية، فإذا تحلّيتَ باللباقة والمهارة أمكنك الكشف الكامل عن جوهر الشخصية التي أمامك، بعد إزالة الغلاف الخارجي عنه طبقة بعد طبقة.
ولو أردت أن تجعل مقابلة شخص جديد مغامرة بحدّ ذاتها، فلا تقف مكتوف الأيدي، و»تدع المقادير تجري في أعنّتها»، لأن لهذه المغامرة فنّ ينبغي أن تُجيد أداءه، عن طريق استطلاع المواضيع التي يهتمّ بها الشخص الآخر وتدعه يسترسل في الحديث عنها.
فلو أبقيت عينيك وأذنيك مفتوحتين جيّداً لوجدت الكثير من الإشارات التي ترشدك إلى نقاط اهتمامه. افرض مثلاً أنك مسافر بواسطة القطار، لاحظ ماذا يقرأ الشخص الذي يجلس على الكرسي المجاور، لأن بإمكانك تصنيف الأشخاص بناء على طبيعة ما يقرأون. كذلك كيفية ارتدائه لملابسه يمكن أن تُنبئ عن ذوقه وربما عن مهنته أيضاً، ولبدء حديث معه حاول أن تخمّن من أيّ البلاد هو قادم، فلن يمانع في تبادل الحديث معك.
بعد ذلك دع الرجل ينطلق في الحديث بينما أنت مُنصت لما يقول، فمن المحتمل أن تخرج من ذلك بمعلومات جديدة، لأن كلّ شخص تقابله غالباً يعلم شيئاً أنت تجهله، فكلّ إنسان هو خبير في شيء ما.
يقول (جون سيدال) محرّر (المجلة الأمريكية) في إحدى توصياته: «لتحصل على المعرفة يجب عليك أن تقرأ وتدرس، وعليك أن تسأل الكثير من الأسئلة، فقليل من الناس من يفعل ذلك، وأغلبهم لا يفعل ذلك.. فطرح الأسئلة يتطلّب الكثير من التواضع، ومع ذلك فإن أغلب الأشخاص الرائعون في هذا العالَم هم جامعو المعلومات الدائمون»!