د. شاهر النهاري
الشعر المقفى: لولا بعض امتعاضي لرحبت بكم في عالمي.
شعر التفعيلة: لماذا الأنانية هذا عالمنا جميعاً؟
المقفى: أنا هنا أريد فرض الاحترام للأقدمية، والتنويه عن القواعد الثابتة.
الشعر الحر: وأين الحرية مع الثبات والقواعد، لماذا تصرون على القوالب المصبوبة مثل زبر الحديد؟
المقفى: هل تسمي الكلام البليغ ذا القافية والبحر والموسيقى والوزن قوالب، وعناداً فيك، فهذا شيء أعتز به وأصر عليه كونه عين التميز والإبداع والسهل الممتنع.
شعر هايكو: لا يوجد ممتنع سهل مثلي.
التفعيلة: أضحكتني أضحك الله عبثيتك، فأنت كارثة بذاتك وصفاتك، وبكلام يَدعي الكثير دون وجود دليل.
الحر: يا أخي هايكو، أنت تنتهك أي حدود للحرية، بل إنك تخلط بخلاطك الكثير من الكوارث، فيصعب وجود نقطة منك صافية، والكلام الشاعري البديع البليغ صراحة لا يعني أنت.
هايكو: لقد توقعت بعض هذا حينما ألفيت عليكم من اليابان، ولكني لم أتوقع شدة الحسد والعنصرية والإقصاء والحقد هذه، خصوصاً منك يا أحدثهم وأقربهم لمعاني تمكن الحرية.
تفعيلة: يا هايكو أنت وافد أعجمي، ولم تبلغ بعد أحقية التسمية بالشعر، أنت مجرد ترجمات هزيلة لا نعرف حقيقة أساسها ولا نشعر بأن لك قواعد، وكم يقوم المترجم بتبديل وتحريف معانيك وأغراضك وأهدافك، وبالتالي الخروج عن السياق، هذا إن وجد السياق.
هايكو: ألستم تقولون إن لغتكم عباب بحر يتحمل كل الأصداف والدر، فهذه صدفتي، لا أنكرها، فهي سر وجودي، وأنا أقصد بتواجدي بينكم إعطائكم فرصة للتعرف على ثقافات أمم شرق الكرة الأرضية.
المقفى: وما معنى هايكو؟
هايكو: تعجبني يا كبير، ودعني أشرح لكم، فأنا بيت واحد فقط، مكون من سبعة عشر مقطعاً صوتياً (باليابانية)، وأكتب عادة في ثلاثة أسطر (خمسة، سبعة ثم خمسة)، على أن أتميز بالمشاعر.
الحر: مشاعر إن صدقنا وجودها، فهي تفتقد للشاعرية.
هايكو: أنت بعنصرية حريتك الضيقة تصادر حرية الآخرين.
تفعيلة: لكل أمة تراثها، فلماذا لا تزورنا زيارة فقط في مؤتمر أو فعالية، ودون أن تحاول مد بساطك في سوقنا، وعرض بضاعتك، التي لن يشتريها أحد.
هيكو: أنت لا تعرفني، أنا عنيد مثل محاربي الساموراي، وقريباً سأنتصر عليكم بضربات لا ترضى بالهزيمة.
الحر: ماذا تقول يا هايكو، نحن في مجالات شعر وعاطفة، ووصف، وبوح، لا أن ندمي الأعين، ونكسر أسنان الأبيات.
هايكو: يعني أن لحريتك شروطاً؟
الحر: بالطبع فبيتي يتكون من شطر واحد ولكنه لا يلتزم بعدد ثابت من التفعيلات، المختلفة من شطر لآخر دون تقييد، ولكني أحترم وحدة التفعيلة.
التفعيلة: أرجو أن لا تحاول إلصاق نفسك بي.
المقفى: (وعينه تدمع) من يصدق كل هذه التحولات، ومن يصدق أني أخوض مثل هذا العبث، كنت فريداً في بداية تواجد لغتنا العربية، وكنت لسانها، وديوانها، وحافظتها وكانوا بالسليقة يميزونني، ويرفعوني مقامات عالية، ويرعونني ويكبرون من يحسن فنوني ويتعمق في بحاري وقوافيي، ويربون أبناءهم على إجادتي، ولكن المنافسين لم يتركوا المحاولات، وكان أولهم الشعر العامي، والذي تقبلته على مضض، رغم أن أصحابه يجورون على الكلمات والحروف، ولكني اليوم أجد الكثير يجورون علي وعلى كل مشاربي، ويحاولون التقليل من قيمتي، ومنافستي دون منطق، وهم لا يتعبون وفي كل منعرج يبشرون بقادم يهددني ويذبحني، ولكني أستمر بصروحي وصراحتي.
التفعيلة: كلما تكلمنا معك أدخلتنا في دراما وتراجيديا وعويل وفخر ورثاء وهجاء.
المقفى: (يضحك) أضحك الله حزنك، وها أنت تذكر محاسني وكأني مت، بينما أنا مستمر بوهجي «شباب على طول»، ولكن لماذا تنسى أهم أغراضي؟ وهو الغزل، الذي يظل حلم العذارى، وغاية ضعف الأبطال، حينما يرون أبياتي تنافس سيوفهم ورماحهم، وتجرح أعناق خيولهم في حماسة الوغى.
التفعيلة: أنا أقر لك بكل صفات العراقة لا شك، ولكنك بالمقابل تنقص من حقي، وتصفني بالعرج، مع أني محاولة للتجدد دون التسبب بهدم.
المقفى: صدقني أنا لا أتعمد القسوة، ولكن حافظة الشعوب العربية تعجز عن حفظك وترديدك شفاهيا مثلي، لذلك وجه لومك لمتذوقي الشعر وليس لي.
الحر: نحن وإن شهدنا لك ببعض الفضل والتميز والأقدمية، ولكنا أيضاً لا نرضى أن تمسحنا من سطور الوجود، وصدقني أننا نحتوي على كثير من القيم والموسيقى، وإن كانت مختلفة عن قيمك، ولكنا نزيد عنك بالحرية الفكرية والإدهاش، حريتي هي الحياة، وهي الإبداع، والتراقص بأقدام ليس فيها قيود سجن.
هايكو: فعلا نحن الحداثة، والتحرر، والثورة على القوالب، والعيش بلا حدود ولا سلاسل ولا قانون جبري يضيق علينا أنفاسنا.
التفعيلة: يا هايكو متى تتحلى ببعض الواقعية، قلنا لك تأدب، ولا أريد أن أقول لك أن تخرس ولكن احترم غربتك بيننا، ودع كبار لغة العرب يتفاهمون.
الحر: ومن متى أصبحت أنت كبيراً؟، لو قال المقفى إنه الكبير فهو محق بذلك، بعد أن عبر القرون و لكنك أنت مجرد ثورة حداثية جديدة لم تثبت بعد وجودها بين ألسنة البشر ولا بد لهم من ورق يحملونه قبل أن يتهجوا سطور شتاتك.
التفعيلة: أنظروا من يتكلم؟
هايكو: فعلاً، أين شعارات الحرية؟
الحر: لا تغضب مني، فأنا أشعر بك، وكلامك عن الحرية يعنيني، وشعورك بالعنصرية المقيتة، التي يزاولونها علينا تجعلني أشد يدي بيدك، فأنت مقاتل ساموراي، وأنا فراشة رومانسية أوربية أنشر جناحي وأرسم لمعة حدود الشموع.
هايكو: أحسنت فنحن نعاني، والاتحاد قوة، ويجب علينا أن نتعاون، ولكني أريد تنبيهك إلى أنك لم تسبقني بكثير، ولا تنس نفسك، فأنت قادم من خلط سريالي تكعيبي ميتافيزيقي، يوازي جنون مدارس الفنون لتشكيلية المستغربة، التي لم ترسخ بعد في محيطنا.
التفعيلة: كلاكما مجرد تجارب.
المقفى: من فضلكم، لحظة نظام، احترموا وجودي.
الحر: ارحموني، وحاولا تفهم الآخر مهما اختلف، فأنا خلقت لأتنفس حرية، وأحمل معي مشاعر من يحلم بها، ويعرف قيمتها.
المقفى: كنت أتمنى أن أرى بينكم التلميذ، الذي يحترم الأقدمية، لأجعله تلميذي، ولكني أشعر بأنكم محاربين، توجهون رماحكم نحو صدري.
تفعيلة: أنا والله أحترمك، وأنا ولا شك تلميذ لك، ولقربي منك عرفني الأدباء والمثقفين وكثير من أبياتي لذيذة، موسيقية راقصة أصبحت هدفاً للطرب والمطربين، ولست مثل من لا رنة ولا رقصة.
مقفى: أنا لا رنة ولا رقصة؟ يا لك من أحمق، أنا التصوير والمبالغة، أنا التشبيه والمحسنات اللغوية، أنا الاستعارة والموسيقى، أنا الفخامة ومحاكاة الطبيعة، وأفضل ما تغنى به العرب هي القصائد المقفاة، ومن لم يتغن بي، ولم يذكرني ولو في موال، يعتبر بعيدا عن الأصالة والطرب والقوة.
التفعيلة: كلا، كلا، أنا لا أقصدك، فأنت معلمنا الأكبر.
الحر: إذاً أنت تقصدني، وهذا لا يضيرني، أنا صريح، فربما أني لا أنطبق على الرقصة والرنة، ولكن لي رونق خيالي رومانسي يكاد أن يتراقص بين شفاه وقلوب المراهقين والمراهقات.
هايكو: نعم، أنا أعترف أن ذلك قد لا ينطبق علي أيضاً، فأنا أبعد ما يكون عن الغناء والمياعة، ولكني قد أتواجد في الأناشيد، مثل الأناشيد الوطنية والعسكرية.
المقفى: (يضحك) صدقني أنت لا تنطبق إلا على كسارة الصخور تخلط معها كل لفظ غريب، ثم يعاد الترتيب بعشوائية ودون شرط ولا جواب.
هايكو: أنا أحترم أقدميتك، ولكني لا أقر لك بإعجاز، ولا أنطرب ببحورك، ومجرد تكرار قوالبك تشعرني بقوالب الثلج تسقط على دماغي من عل.
الحر: أنا أعتقد أن مستويات الحرية تحتاج الخفة واللطافة والقدرة على الادهاش بتحويل البداية إلى أغرب النهايات.
تفعيلة: إذا دعونا نعمل بيننا مسابقة، للغناء المنغم بالبديهة؟
المقفى: بالله عليك دعنا من المزاح السمج، ولا تحاول الخلط.
حر: جاءتني فكرة، لماذا لا نحترم بعضنا، ولا نتنافس، فنحن كيانات مختلفة، ولا يمكن أن تتم المقارنة بيننا.
التفعيلة: الحل ليس بأيدينا والحاكم في ذلك هو المتذوق.
المقفى: الخطأ الأول حدث دون أن أنتبه، وهو يتكرر، وكان يجب منذ أن خرج التفعيلة علي، ألا يتسمى بالشعر، فيعامل معاملة مختلفة عني ولا يحسب شعرا، ولكن حينما حمل اسم «شعر التفعيلة» جعل الجميع يقارنون ويقرنون، ويميزون.
تفعيلة: وماذا كنت تريد أن أسمي نفسي؟
المقفى: أي اسم بعيد عني، كان من الممكن تسميتك «برقوش».
يضحكون جميعاً، ويقول الحر: وأنا ماذا كنت تسميني؟
المقفى: توهان.
يضحكون.
ينظر المقفى لهايكو وهو يهم بالسؤال: أما أنت فكان من الممكن تسميتك «العين الضيقة».
يستمر ضحكهم بأصوات مرتفعة توقظ المكان، حتى يتجمع حولهم جيرتهم وأصحابهم، ويحضر الشعر النبطي فوق ناقة، والشعر الشعبي يحمل طبلة وربابة، والشعر الغنائي يتقصف راقصاً، والأهزوجة ترقص بخفة، والنشيد يسير بانتظام، والرواية رابطة الرأس تريد وقتاً كي تحكي، والقصة تحتوي أبناءها حولها، وابنتها القصة القصيرة تتمرد، والقصة القصيرة جداً تدعب شعر الهايكو، الذي يخرج لها لسانه، والخاطرة تنظر بإعجاب للشعر الحر، وتكاد تكلم نفسها، والبحث يحمل أسفاراً، والمقالة تنتقد الأوضاع المحيطة، والمسرحية تلتف بستارة، وتتفقد خشباتها، والمسرحية الغنائية، والملحمة تبحثان عن مرتفع وإضاءة.
يرحب بهم المقفى، ويخيرهم بين الجلوس في دائرة الذكريات للتسامر، أو المسير خلفه لإكمال السهرة في مقهى «عكاظ»، أو أن يكون دليلهم بجولة خيال وإلهام وتفتق ذهن في وادي عبقر، ويعدهم بأن يشنف آذانهم بألحان الجن وخيالاتهم، وربما ينير ليلهم بسرد شيء من تبر المعلقات ومن عيون نوادر الشعر الجاهلي والأموي والعباسي والأندلسي.
التفعيلة: ولماذا لا أتغنى لكم ببعض أبيات نزار؟
الرواية: لا أدري لماذا تخصصون الليل كله للشعر، ألا يطيب لكم مني حكاية؟
القصة القصيرة جداً: شكراً، لا نريد أن ننام.
القصة: (وهي تشير بسبابتها) كم مرة أقول لك ألا تتحدث أمام الكبار؟
هايكو: ولماذا لا نسافر جميعاً إلى جبال التيبت؟
تفعيلة: ولماذا نذهب معك؟
هايكو: سأعمل بينكم مسابقة لأصعب وأبرد قصيدة، ومن المؤكد أني سأفوز عليكم بين جمهوري.
يضحكون.
المقال: يا له من موضوع مقال بديع يحكي عن تناقضاتكم.
البحث: دعهم يزيدون من المعلومات، فأنا حريص على جمع مصادري قبل الكتابة.
المسرحية: ما أجمل ما سمعته منكم من حوارات راقية، هذه مسرحية بل ملحمة شعرية تستحق أن تعرض لمواسم.
المقفى: يا من تنكرون، كلكم أبنائي، ومهما كبرتم وجحدتم وتنكرتم، ففي البدء لم يكن غيري.
الهايكو (يريد أن يعلق بفرحة تبرق في عينيه)، فيقاطعه المقفى: أنت بالذات ابني بالتبني!
يضحك الجميع.
البحث: جميل جداً، سأبدأ في العمل على دراسة النسب بين تلك الأنواع، ولا بد من تحديد الـ(دي إن أيه).