حامد أحمد الشريف
«ظللت طول اللّيل أجرّب ربطة العنق وأحاول إحكامها فقد فشِلَت فشلاً ذريعًا في أن تأخذ الوضع المناسب الذي أشاهده في التلفاز أو في البنوك.
وتذكّرت جاري في الغرفة المجاورة الذي كان سفيرًا لدى بلادي كما أخبرني بنفسه حين التعارف. فعزمت على التوجّه إليه قبل الانتقال لافتتاح بداية انطلاق مهرجان المربد الشعري.
طرقت الباب وجدته في هندامه المكتمل. ثبتَ ناظري على ربطة عنقه وتمنّيت أن تكون لي بعد قليل مثلها.
حينما أخبرته بطلبي ابتسم ابتسامة عريضة ورفع يده يفكّ ربطة عنقه ويضعها جانبًا ويمسك بربطة عنقي ويضعها كذلك وأمسك بيدي قائلا لندع أعناقنا حـرّة.»
الكاتب السوداني صلاح عثمان
عندما ذهبْتَ إليه تستهديه كيفيّة عقد ربطة عنقك، توقّعت أن يوقفك أمامه ويشرع في لفِّها بالطريقة التي تُحسِّن هندامك... (كنتُ - لغبائي - سأفعل ذلك) ولو فعل، وأخذ بيدك لمعرفة طريقة ربطها لاحقًا، لكان كريمًا معك، لكنّه - وهذا ما أثار دهشتي - كان عميقًا جدًّا في قراءته للموقف؛ شعر بأنّك - وقد أتيته - أعطيت هذه الخرقة البالية أكثر ممّا تستحقّ، فقرّر أن يهديك درسًا أهمّ من طريقة ربطها التي يتقنها أطفال صغار إن تدرّبوا عليها. وطالما كانت تحيط بعنقه بالهيئة التي وصفتها، فهو يعرف كيف يربطها، أو لنقل هذا ما يمكن فهمه... قرّر أن يخبرك بأنّ هندامنا لا علاقة له بقيمتنا... فبإمكاننا أن نكون كبارًا بفكرنا وثقافتنا وإنسانيّتنا، وقتها لن ينظر الآخرون إلى ملابسنا، وإنّما سينشغلون بنا، ولا يهتمّون بغير ذلك...
أظنّه قال لك كلّ ذلك في موقف بسيط جدًّا، وعبارةٍ ارتجلها وقتها وهو يبتسم في وجهك طالبًا منك، بعد خلْع ربطة عنقه، أن تطلقَ العنان أنت أيضًا لعنقك، حتّى تكون حرّة طليقة لا تقيّدها مثل هذه الربطة، وترك لك تقدير الموقف وفهمه بطريقتك، وهو يظنّ فيك الظنّ الحسن بأنّك ستفهم مغزى قراره. وهذا ما كان بالفعل، عندما سطرتَ هذه القصّة القصيرة وقد شعرت بأنّ الموقف أكبر من اختزاله في شخصه وشخصك، وأنّ من المهم ذيوعه وانتشاره وتوظيف القصّة لفعل ذلك...
كثيرة هي المواقف التي تُستقى منها العبر، نحتاج فقط للتمعُّن والتبصُّر فيها، وقتها سنتعلّم ونُعلّم بكلمة وكلمتين، بينما غيرنا لا يستطيع إيصال فكرته وتأطير غيره على آداب وأخلاق ينشدها رغم المجلّدات التي يكتبها والأصوات التي يُصدرها... وحتّى أكون منصفًا، هذا النصّ الإبداعيّ يحتمل أكثر من ذلك، ويمكن النظر إليه من زاوية أخرى؛ فقد يكون الجار لا يعرف طريقة تثبيت ربطة العنق، وهرب من الموقف بافتعال هذه الحكمة التي وإن كان قد وُفِّق فيها، إلا أنّها تأخذنا نحو قراءةٍ مختلفة تمامًا، عندما نستحضر أولئك النفر الذين يهربون من واقعهم، ويستخدمون لذلك ما يقع تحت أيديهم من حيَل وكَذِب وخداع. ومع أنّهم قد يوفَّقون في تمرير مثل هذه المواقف، إلّا أنّهم يقعون في الجرم الأكبر، وهو الهروب بدل المواجهة؛ في هذه الحالة كان الأحرى به أن يبتسم في وجه جاره ويخبره بكلّ بساطة أنّه لا يجيد ربطها، وأنّ زوجته أو أحد أصدقائه عقدها له مسبقًا، وكلّ ما عليه فعله هو تضييقها عند لبسها، وتوسيعها لإخراجها عن رقبته، فتبقى جاهزة لاستخدامها في المرّة القادمة، فكثيرون يفعلون ذلك.
السؤال الذي يُطرح هنا، هل كان على المؤلِّف تحديد أحد هذين الخيارين - وكلاهما كان جيّدًا ويمكن التعويل عليه - لخلق قيمة للنصّ ومنحه العمق الدلالي الذي يحتاجه؟!
في ظنّي، إنّ النصّ بوضعه الحالي، ورغم الاحتمالات المتعدّدة، من دون شواهد تؤكّد أيًّا منها أفضل، أصبح كالعملة ذات الوجهين، فكلاهما ممكن ومقبول؛ فقد يُعاب على بعض النصوص تعدُّد معانيها المرسلة التي لا يمكن الجزم بأيٍّ منها، إلا أنّه هنا يشكّل قيمة تضاف إلى النصّ، وتعَدّ أصالة وُفّق فيها الكاتب، ومَن يستطيع فليأتِ بمثلها.