د.عوض بن إبراهيم ابن عقل العنزي
قيل: إنَّ قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ } تشبيهٌ وهمي؛ لأنَّ معترضًا اعترضَ بأنَّ التشبيه لا يكونُ إلا بشيء وقعت عليه الحاسّة، وقد ردَّ هذا الاعتراض بما يلي:
(1) استقرَّ في النفوس قبحُ الشياطين فشبه طلعها بها؛ لأنَّ العرب يشبهون بذلك، وليس يقعُ في النَّفسُ شيء ليس لديها علمٌ منه كان حصلَ لها بالحاسَّة أو الخبَر؛ لأنَّنا نتحدّث عن بني آدم الذين أولهم ورأسهم (آدمُ عليه السلام) حِينَ كان في الجنة وأهبطَ منها بوسوسة الشيطان له، وكانَ يحذِّرُ أبناءه اتباع الشيطان، وهنا يصبحُ الشيطان معروفًا للناس بتعريف أبيهم آدم عليه السلام أهم عن ذلك المخلوق الذي حسده ما أتاه الله تعالى من الفضل.
(2) يقصد بالشياطين حيّات قبيحة.
(3) يقصد بالشياطين نباتٌ في البادية نتنٌ ينبتُ بأرض اليمن يسمونه (الشياطين) و(الأستُن).
وعلى هذه الأقوال يصبحُ التشبيهُ تشبيهًا محسوسًا بمحسوس في القول الثاني والثالث، وليس في هذا إشكالٌ.
والإشكالُ يقعُ في الأول بحجّة أنَّ (الشياطين) لم يرها العربُ فيكونُ وهمًا، وهذا غيرُ صحيح من جهات:
(1) أنّ ما يُقال بأنّه استقرَّ في النفوس قد يعودُ لرؤيةٍ قديمةٍ كانت في عهدِ آدم للشيطان وذريّته فظهرتْ كلمة (الشيطان) لوجود مخلوقٍ قبيحٍ يتناسبُ مع هذا اللفظ الذي ذكره الله تعالى في (القرآن) بقوله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ}.
(2) أنَّ هذه الآية ليست تشبيهًا وهميًّا؛ لأنَّ النبي رأى الشيطان ورأى الشياطين قرينةَ كلِّ إنسانٍ وقد ورد في صحيح مسلم أنّ الشيطان تعرَّض للنبي في صلاته فاستعاذ بالله منه ثلاث مرات، في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
(3) أنَّ ما قيل بأنَّ أنيابَ الأغوال يُشبِّه بها العرب وهم لم يروها كما في بيت امرئ القيس غير صالحٍ للاحتجاج به؛ لأنَّ الغيلان معروفةٌ عند العرب وتتمثُّلُ لهم، وكذلك الشياطين معروفةٌ عندهم لوجود الكهنةِ والعرَّافين الذين يعرفون هذه الأشياء ويخاطبونها.
ويكفينا من ذلك أنَّ النبي تلا هذه الآية وهو أعلمُ بكلامِ الله تعالى وسمعها الصحابةُ منه فسكتوا لا جهلاً منهم بل لتمام علمهم أنَّ ذلك صحيحٌ وأنَّ الشياطين قبيحةٌ، وأنَّ النبي يراها ويعلمُ من الله تعالى ما لا يعلمه غيره، وما هذا التأويل بأنَّها مما لا يُرى إلا أحدُ التفسيرات؛ لأنَّ الغالب أنَّ الشياطين لا تظهرُ بحفظ الله تعالى ونعمته على عباده، ولكنَّ الجاحظَ رفض القولين الثاني والثالث، وذهب خلف الأول مثبتًا له؛ لأنّه يخدم فكرةَ وجودِ شيء بلا أعراض، وإلا فالعلماء أثبتوا ذلك على أنه مما استقرَّ في النفوس، ولا يستقرُّ في النفوس شيءٌ بين البشر إلا ولهم علمٌ به قديمٌ من الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
وبعد هذا كله أجدني أقول: ليست الآية من التشبيه الوهمي الذي لا تدرك ذاته ولا مادته إلا بالعقل؛ لأنّ الشيطان مخلوق عرف العربُ عنه شرَّه، وعرفوا عن خدمه شرهم وشرَّه، واستقرَّ في نفوسهم أنّهم لا يتمكنون من رؤيته كما يرون بعضهم، وأنَّ له قومًا يختصُّ بهم ويختصون به، وأنَّ النبي رآهم بل رأى إبليس نفسه كما في حديث أبي الدرداء الذي في صحيح مسلم، وعلى ذلك ينبغي لكل مشتغلٍ في البلاغةِ العربيّة ألا يكتفي بما يقوله الجاحظ وأضرابه ممن اختلط فكرهم بكلام الفلاسفة، وأنْ يرجعوا قضايا البلاغة إلى الهدى والعلم في كتاب الله تعالى ويعرضون على سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ليتبيّن لهم مصدرُ القول ومورده، وأصله وجذره وتربتُه التي نبتَ فيها، وكيف تعامل معه المشتغلون بالعلم.
** **
- جامعة الحدود الشمالية