د.حسن مشهور
لم يكن الشاعر الإنجليزي الراحل سيسل داي لويس مجرد شاعر عالمي آخر، وإنما كان يمثِّل عالماً بذاته. فكتابته للقصيدة لا تتماهى مع مجايليه أو من سبقه من الشعراء العالم. وأبسط وصف لشعره أن يقال عنه إنه شعر معقد، وربما هذا هو أحد الأسباب إن شعره لم يترجم إلى عالمنا العربي رغم أنه قد كان قد منح منصب شاعر بلاط المملكة المتحدة البريطانية في العام 1978م، وبقي يحمل هذا اللقب إلى حين رحيله في العام 1972م.
كتب داي لويس ديوانه الأول «من الريش إلى الحديد» الذي خاطب فيه طفله الذي كانت زوجته لا تزال في مرحلة الحمل به يحدثه عن عالمنا المعاش الذي وصفه بالحديد مقارنة بعالم الريش الذي كان الطفل يقبع به في رحم أمه قبل أن يخرج إلى عالمنا المليء بالصراع والاحتراب والكره والأحقاد. ولئن كان داي لويس كما أشار في كتابه الأول «من الريش إلى الحديد»، بأنه لم يكن معنياً بتلك العلائقية التي تربط المحتوى البنيوي لقصائده بالحراك السياسي، فإن ديوانه التالي: «جبل المغناطيسThe Magnetic Mountain «، المنشور عام 1933م، هو في واقعه رمزية سياسية لا يمكن بأي حال إغفالها.
فالجبل في ذاته هو رمز غامض إلى حد ما لعالم مثالي يقبع خلف الأفق، ووعد ببداية جديدة وعالم جديد يمكن أن يكون فيه الجسد والروح متعالقين بشكل أحادي. يحفل هذا الديوان كذلك بصورة تتمثّل في جذب الجبل لنقاء القلب في كلمات عدادها ستة وثلاثين بيتاً شعرياً، مرتبة في أربعة أجزاء.
وفي منعرجات هذه الأجزاء وتعقيداتها نلحظ بشكل ذكي حضور الرمز السياسي ووجوديته الواقعية، ولنتأمل التالي من قول الشاعر:
لتتصلب العظام
ولتنقطع الروح
الأصل منا موطنه الماء،
والأرض والهواء،
في ودنا المرير وخبزنا يومنا القرير.
حماقاتنا أودعتنا تلك الردهة
لأول مولود لا يزال ينتظر
وربما يأتي التأجيل
في اللحظة الأخيرة
فلتراقب القِيَمْ
ومنها السلام
أن يلوح في الأفق
وفي كل منحى وقبر
فالظل بدأ و اليد لم تزل في كمها
أنت يا أنت!
أيها الرفيق،
الآن أو غداً،
حي كنت أومسلوخ جلدك،
أو أصابك الجنون جراء الفواجع
التي قرضت أعصابك
صديقي ..
يا من يكره أن يحشر في زاوية
يا من تعشق الخيانة
جراء الجوع الذي استنزفك
محصور أنت بالمدى
الذي يتقنع الشجاعة
ليغلب أزمته الطويلة
لكن النشيج والعويل
هو الذي سيحل في النهاية.
بالعودة للديوان، فإننا نجد بأن الشاعر في الجزء الأول منه قد عمد لأن يقنع معه القراء للانضمام إليه كرفقة له في رحلة أقل ما توصف به؛ أنها من الصعوبة بمكان بشكل غير متخيل. ففي رحلته هذه نجد الشاعر يشير إلى أنه قد «حمل مولد الضوء بيده وعاد القهقرى مرة أخرى على طول خط رحلته الماضية وكأنه يقوم بجولة التفتيش.» وهذه الجولة نجدها تستغرق الجزأين التاليين من القصيدة.
إذ نجد في الجزء الثاني من هذا الديوان، بأن لدينا أربعة متهمين يتحدثون نيابة عن العالم القديم وقيمه المتشكلة من الطبيعة، والتعليم، والكنيسة، والحياة العائلية. ليتم على ضوء ذلك رفض محتوى حديث كل واحد منهم على حدة، وعلى إثر ذلك يتم صرفه بعد أن يتم توبيخه، ولكن يسبق عملية صرفه هذه، الرد على ما قد تم طرحه من قبله. وهذا الرد يكون أيضاً مقرونا بالتوبيخ، وتكون الردود في قوالب الشعر الإنجليزي المسماة بالسونيتا sonnet.
في الجزء الثالث، نستمع لأربعة من الأعداء يتحدثون نيابة عن الإثارة، والصحافة، والعلوم، والشعر. ولكن مجمل ما تم طرحه من قبلهم وإن كان في بعضه يحوي إغراءً، إلا أنه يتم رفضه. في حين نجد في الجزء الرابع من هذا الديوان أنه يحوي جولات أربع من الشعر. وهذه الجولات لاترتبط بالمحتوى الجوهري للقصيدة (أي الرحلة)، ولكنها تحوي مجموعة متنوعة من المفردات الشعرية تدعو العام الجديد للحضور والاحتفاء، كما تحوي في ذات الوقت دعوة للقارئ للركون إلى وعدها هذا.
يرى العديد من النقاد أن ديوان «جبل المغناطيس»، قد حوى بنية أساسية تتسم بالثبات والغرابة لقصيدة تقول لنا الكثير عن عوالم رحلة ما، هي تلك الرحلة التي نجد فيها أن التسلسل التعبيري للقصيدة لا ينقسم لكلمات منفصلة حتى يصل إلى القسم الأخير منه.
نلحظ كذلك بأن الشاعر قد حقق وحدة النص في المقاطع الوسطى من خلال توظيف المدعى عليهم والأعداء على حد سواء. كما نلمس مجدداً بأن تأثير صديق شاعرنا - وأعني به الشاعر أودن - يبرز بشكل ملحوظ في بنية النص الشعري .
وهو أمر نراه يتكرر بشكل روتيني في العديد من قصائد داي لويس. إذا يعتقد البعض من دارسي الأدب بأن داي لويس يكون أكثر فاعلية في نصوصه الشعرية حين يعمد للاقتراض من أودن. ولاسيما في خطوط بعينها مثل:
«اعتبر ذلك، لأننا ندينهم»
أو
«أنت تخرج بمفردك، بالترادف أو على البليون».
في حين يرى البعض الآخر من النقاد بأن تأثر داي- لويس بقصائد صديقه الشاعر اودن وسعيه للاقتراض شعرياً منه مرده شغفه بتحقيق النغمة المزاجية التي يولدها أودن في كتاباته الشعرية بالإضافة لافتتانه الكبير بتلك الموهبة العالية الطبيعية لدى أودن التي يعكسها شعره المتسم بالخفة والعذوبة.
ولقد وُجِدَ من النقاد من يعتقد أيضاً، بأن داي - لويس كشاعر يكون في أفضل حالاته للكتابة عن الرمز السياسي في شعره، حين لا يكون واعيا بفعل ذلك. وتحديداً كما جرى في ديوانه الشهير « من الريش إلى الحديد «. في حين أنه قد كان في ديوانه «جبل المغناطيس «، واعياً بالرمز السياسي وعمد لتوليده في بنية النص، ولذا فنحن نجد بأن الشواغل السياسية التي أعطت العمق لسلفها تطغى على القصيدة.