«حرائق الجنة» كتاب جيكار خورشيد الموجه للأطفال من عمر 8-12، والصادر عن دار الثعلب الأحمر عام 2022م، يتضمن عنوان الكتابة طباقًا في بنيته البسيطة، فكيف للحرائق أن تشتعل في الجنة، وهي المكان الحلم والهدف الأسمى، فالجنة بعناصرها المتكاملة تخاطب حواسنا الإنسانية فتثير البهجة وتقدم الراحة الأبدية، إلا أن خورشيد قدم لنا صورة أخرى تجعل المتلقي يصاب بالدهشة، فكيف للحرائق أن تطال الجنة بينما موضعها في ذهن الإنسان ينحصر في النار، وهو بذلك يحقق تلك الدهشة الأولية عندما ننظر إلى الكتاب فيشدنا العنوان وينشئ الفضول.
يتعرض خورشيد في قصته «حرائق الجنة» إلى قضيتي التلوث البيئي وعمل الأطفال، إذ يبحث الصبي عن عمل يعين به أمه الأرملة والتي تعاني لتربية صغارها، «لكن ألم التعب أهون علي من رؤية أمي حزينة»، وعندما وجد عملا بعد عدد من المحاولات الفاشلة كان العمل في حراقات النفط، «من يريد العمل في حراقات النفط؟ ومن دون أدنى تفكير اتجهت نحوه صارخًا: «أنا..أنا..أنا أحتاج إلى عمل».
كانت نوعية العمل، التي لم يجد سواها، ضارة صحيا وبيئيًا، إذ عليه أن يجمع الإطارات الكبيرة والثقيلة ووضعها قرب خزان النفط الخام، ثم يضرم النار تحته، ومن الاحتراق يسخن النفط فتخرج أبخرة تؤذي الجميع ممن يعملون بهذا العمل الشاق. تلك العملية المؤذية تتماهى مع شخصية صاحب العمل وفق وصف خارجي مباشر يسقطه عليه بقوله: « لصاحب العمل وجه عبوس يراقبنا باستمرار، وينهرنا إن لحظ منا بعض الفتور أو التذمر»، وفي موقف آخر يقول عنه» كان يعاملنا كآلات لا تشعر ولا تتعب، كم كان بذيء الكلام حين يغضب».
لم يكن صاحب العمل يظهر لطفًا تجاه الصبي إلا في موقف نافر عن السياق العام، وفيه يشير الكاتب إلى قضية التحرش الجنسي، وهو طرح حساس في أدب الطفل، وقلما تم تناوله نظرًا لأنه من الأطروحات التي تحتاج إلى معالجة ذكية لا تمس التابوهات المجتمعية، وهي تابوهات يخشى الكُتاب التطرق إليها نظرًا لصعوبة تقبل الوالدين مشاركة أي موضوعات من هذا النوع مع أطفالهم، إلا أن خورشيد يطأ أرضًا جديدة، ويجتهد أن يقدمها ضمن الاستغلال العام لكل ما هو خير، وانتهاك الجمال في الحياة واستغلال البراءة والحاجة، وفي رقة غير معتادة قال صاحب العمل للصبي: “لقد تعبت هذا اليوم يا ولدي، اذهب واغتسل وعد إلى البيت لترتاح...دخلت الحمام فلم أجد الذراع الخشبية التي نستخدمها لإغلاق الباب من الداخل...»
وفي مشهد ضمني للتعبير عن التحرش يستعيض خورشيد وبفطنة الكاتب الذي يعرف خصوصية مجتمعه، فيعبر عن التحرش بقصة فرعية موحية تقابل الفعل المشين إذ يختار الأفعى بما فيها من تلوّن وتلو وصفات سلبية تاريخية تنتشر في عدد من الثقافات العالمية، فيرسم مشهده بجمل وصفية تفصيلية: «رأيت مشهدًا مخيفًا: رأيت أفعى تتسلق شجرة لتأكل فراخ عصفورة تزقزق وهي تحاول أن تبعد الأفعى عن فراخها بنقرها...».
في فعل يظهرمن تطور إيجابية الصبي كشخصية فاعلة وحيوية محركة للأحداث المتوالية يقوم الصبي بـ «حمل بعض الحجارة ورميها على الأفعى حتى سقطت وهربت مختفية بين الحشائش الجافة...»، وبذلك ينحو خورشيد لتوظيف المعادل الموضوعي في هذا المشهد والذي اشتهر في الشعر، وكون خورشيد أيضًا يكتب الشعر للأطفال فمن الطبيعي أن ينسج من ملكاته ما يحوك به نثره.
أما السرد فقط كان بصيغة المتكلم بما في ذلك من إضفاء شخصنة على الأحداث ودمج المتلقي بأجواء العمل الشاق واستجلابه لجو الأحداث المتوالية نحو تأزم الحدث المركزي، إذ يصاب بالسعال وضيق الصدر بسبب ما أصابه من ضرر، « ابتلع غيمة كبيرة من الأبخرة السامة...»، بعد أن «سرقت قسوة العمل ابتسامتنا». كل ذلك التلوث انتشر على عناصر البيئة، فلم ينج شيء، «رأيت الطيور التي أصابها سخام المحروقات، فتساقطت من سمائها، وتألمت لتلوث النهر، وموت أسماكه، وهلاك الشجر وذبول الحياة فيه.»
أظهر السارد تعاطفًا مع بيئته التي أصابها الخراب بفعل حراقات النفط، وهنا نرى الصراع الذي يتنازعه بين جنته واحتراقها متمثلًا برفضه لما يجرى واضطراره للعمل لكسب قوت يومه ويوم عائلته، إذ يتماهى شعوريًا مع الطبيعة حوله، وهو الذي يرى نفسه جزءًا منها لا ينقسم عنها، «بينما كنت أعمل على إضرام النار، شعرت بدوار فجلست متكئًا على جذع شجرة لأرتاح للحظات، وخيل إلي أنني أسمع صوتها وخفقان قلبها الحزين بسبب ما نفعله كل يوم»، هذا الأسى الذي يملكه الصبي نحو جنته إنما هو استدراك لغلطته في المساهمة بهذا الجرم غير المتعمد والقائم على جهله بمنحى العمل، وفي جملة ملأى بالحكمة والتي يبدو فيها صوت الكاتب بخبرة حياة لا تتناغم مع عمر الصبي إلا إن كانت الأحداث جعلت من ذلك الصبي العامل خبيرًا من دروس الحياة المتلاحقة والمتراصة، إذ يقول: «يا له من ألمٍ أن يكون للحياة ثمن!»
يقفل خورشيد قصته «حرائق الجنة» بالعودة إلى جنته أي أرضه وتعميرها من خلال زراعتها من جديد، وهنا يتجدد الأمل وتكبر الفرص: « عرضت أمي علينا فكرة السفر إلى القرية والعمل في الزراعة، فوالدي ترك أرضًا بورا، سنجتهد في استصلاحها...»، والاستصلاح متناغم مع إصلاح الحال والذات والعائلة وأوضاعها كي تستقيم وتتسق معيشيًا.
إن اختيار الفعل الإيجابي من خلال الحفاظ على البيئة كان هو الحل الأمثل للانتصار للمستقبل وإنهاء الصراع الدائر في نفس الصبي الذي رفض علانية أن يحرق الحياة وهو جزء منها، وفي الوقت عينه هو عنصر من عناصرها الحيوية، ويبدل دوره ليكون داعمًا للبيئة والطبيعة: «عند ضفة نهر القرية، رأيت طائرًا قد اصطبغ بالسواد...نظفت ريشه، وسكبت عليه الماء حتى استعاد قوته...ثم أطلقته بعيدًا ليحلق بعيدًا حيث يريد.» وهكذا انتصر الصبي في صراعه فأطفأ حرائق جنته التي اضطرمت في نفسه وفي محيطه، وأنبت خيرًا لربما تتحول حرائق الجنة إلى حدائق الجنة.
لطالما كانت النهاية الأَمْيَل للطمأنينة النفسية للطفل تفسح له باب الأمل لغد أفضل، وتعينه على النظر إلى مستقبله بانفتاح وتفاؤل، وبهذه النهاية أغلق خورشيد قصته الفريدة، والتي تنامت المشاعر فيها متصاعدة من خلال تفاصيل ومواقف، ثم هبطت هبوطًا مطمئنًا كما الطير المتعثر الذي أخيرًا وجد عشًا هادئًا يلوذ إليه ليبدأ من جديد.
** **
- د.ريما زهير الكردي
rimaalkurdi@yahoo.com