د.محمد بن عبدالرحمن البشر
العشر الأواخر من هذا الشهر الكريم أيام اجتهاد في العبادات، واعتكاف على الطاعات، طلباً للرحمة والغفران، من الكريم الديان، الحنان المنان، والحمد لله الذي بلغنا هذه العشر المباركة، ونحن ننعم في خير ونعمة، وأمن وأمان، لقد كان معنا في أوقات مثل هذه مضت، جموع من الأقرباء والأصدقاء، والجيران والأعزاء، توفاهم الله برحمته، فندعو الله أن يمنَّ عليهم بجوده وكرمه، في جنة عرضها السموات، والأرض، وأن يجعلهم في الدرجات العُلى من الجنة، وله الحمد والمنَّة، وهناك جموع ستأتي، منهم من يدرك هذه الأيام المباركة، سنين متتالية، تزيد وتقصر، وكل إلى مآل، مهما ساءت أو حسنت الأحوال، لكن لا بد لنا أن نعتبر، وأن نؤمن ونصبر، ونتوكل على الحي القيوم، خالق الأرض والسماء، والعالم بالأموات والأحياء.
قال قس بن ساعدة الإيادي: من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا فأقاموا، أم تركوا فناموا.
في الذاهِبينَ الأَوَّلين
مِنَ القُرونِ لَنا بَصائِر
لَمّا رَأَيتُ مَوارِداً
لِلمَوتِ لَيسَ لَها مَصادِر
وَرَأَيتُ قَومي نَحوَها
تَمضي الأَصاغِرُ وَالأَكابِر
أَيقَنتُ أَنّي لا مَحالَةَ
حَيثُ صارَ القَومُ صائِر
قال تعالى : {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}. قال أبو العالية: الصلاة فيها ثلاث خصال، الإخلاص، والخشية، وذكر الله، وإن حق لي أن أزيد على أبو العالية لأضفت، والرجاء لما عند الله، والحقيقة أنه لا يقيم الصلاة إلا مؤمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، وهي عبادة عظيمة يتجلَّى فيها الإخلاص لله، فكل المشاعر، والذكر، والقيام، والركوع والسجود، وقراءة القرآن، وجميع أركان وواجبات وسنن الصلاة خالصة لوجه الله تعالى، وإحدى الغايات من ذلك طاعة الله بتنفيذ أوامره، والتقرّب إليه بالصلاة، والطمع في الثواب، وخشية العقاب، ومن وسائل الخشية والرجاء، الصلاة والذكر والدعاء، نهي الصلاة للمسلم عن ارتكاب الفحشاء والمنكر تستوجب طاعة الصلاة، وهذا فيه صراع بين الشهوات، وما جبلت عليه بعض النفوس من حبها، أو حب بعضها، وبين ما تتوق له النفس من الطمأنينة من خلال التوكل على الله، وجعل الصلاة جسراً عظيماً للانتقال من اتباع الهوى مع ما يصاحبه من عدم الطمأنينة، والتقلبات النفسية والصراعات الداخلية، وبين الانتقال إلى عالم التوكل على الله والتفويض له، ومن الملاحظ أن الحب العميق لله، والانتقال من عالم الهوى والمنكر والفحشاء إلى التحليق في عالم الحب الإلهي الصادق النقي البسيط، يتجلى في القيام بالصلاة، وغيرها من العبادات، ولن ازداد عمقاً كما فعل ابن سبعين وابن الخطيب وابن عاشر، وابن العربي، وابن الفارض، وغيرهم، فما سهل تركيبه سهل هضمه، وما خلى من التركيب المعقد تيسر تفكيكه.
ولو توقفنا عند سورة الماعون، وقول الله تعالى عزَّ شأنه: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} قال الطبري في تأويل ذلك الذي يقهره ولا يطعمه، ونتأمل قول الله تعالى في نهاية السورة {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} أي لا يؤدون الزكاة، ويحرمون مستحقيها من حقهم الذي أوجبه الله، ولقد اعتاد الناس على اخراج زكاتهم في هذا الشهر الكريم، ومنهم من يخص العشر الأواخر بذلك، لعل دعوة من محتاج تعبر من تلك الفجاج، التي لا تعد ولا تحصى، فرحمة الله واسعة، وأبوابه مشرعة، وهكذا فإن شهر رمضان الكريم كله شهر خير وبركة، وصلاة وزكاة وذكر ودعاء
ويقول الله تعالى في السورة ذاتها {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}، وقد اختلف المفسرون في ذلك، فهل هم المنافقون، أم غير المنافقين، التاركون للصلاة، أم هم أولئك المؤخرين لها عن وقتها، ومهما يكن التأويل، فإن الآية الكريمة تدل على عظم شأن الصلاة، وأهميتها للمسلم، وربما يكون الشهر الكريم، واعتياد المسلمون إكثار الصلاة فيه، يكون مدعاة لتبصر المرء، ومداومته على الصلاة بعد انتهاء الشهر الكريم، وعبادة الله على بصيرة دون غلو أو تطرف.
من نافلة القول أن الدعاء في الشهر الكريم اقرب للقبول، إذا توجه المسلم إلى ربه بقلب صادق، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (يُسْتَجابُ لأحَدِكُمْ ما لَمْ يَعْجَلْ) - أخرجه البخاري، لهذا فإن مواصلة الدعاء، والاستمرار فيه، مع اليقين بحكمة الله في توقيت القبول دلالة من دلالات اليقين والتوكل، ولا شك أن الإنسان يتعرض إلى صراع داخلي إذا طال أمد قبول ما يبتغيه، وهنا تتجلّى قوة اليقين، ومدافعة النفس الأمَّارة بالسوء التي تزور عندما تجد موضعاً للوهن النفسي، والإحباط، الذي قد يرتاب المرء بين الفينة والأخرى، ليشد الصراع بين قوة الإيمان واليقين، وبين ذلك الطائف الذي يريد أن يتسلّل ليعبر إلى سويداء القلب والنفس ليغلب ويهيمن.
وَالنَفسُ مِن خَيرِها في خَيرِ عافِيَةٍ
وَالنَفسُ مِن شَرِّها في مَرتَعٍ وَخِمِ