د. عبدالحق عزوزي
مضت أزيد من سبعة عقود على توقيع معاهدة الشمال الأطلسي التي كانت وراء إلزام الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وعشر دول أوروبية اعتبار أن أي هجوم على أي دولة منها هو هجوم عليها جميعا؛ وتأسس بذلك أقوى وأكبر حلف عسكري في تاريخ البشرية... وتنعقد باستمرار قمم واجتماعات للدول الأعضاء، ولكن قمم السنين الأخيرة تمر وسط غيوم ضبابية قل نظيرها وتكون نظاما عالميا جديدا مطبوعا بالغموض والمجهول واللا يقين... ومع مرور السنوات يمكن أيضا ملاحظة التكيف المستمر الذي تعرفه هياكله لمواجهة التحديات الأمنية الأوروبية والمتوسطية والدولية اللا متناهية. وقبل نشوب الحرب في أوكرانيا، سبق وأن خرج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتصريح عن «الموت السريري» للحلف، في مقابلة كان قد نشرتها له مجلة «ذي إيكونومست»، ذائعة الانتشار، وهو ما أثار في وقته ردود فعل مباشرة وقوية حتى من أكبر حلفائه، وأعني بذلك ألمانيا، إذ انتقدت المستشارة الألمانية آنذاك أنجيلا ميركل هذا الحكم «الراديكالي»، وقالت في مؤتمر صحفي مع الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ «لا أعتقد أن هذا الحكم غير المناسب ضروري، حتى لو كانت لدينا مشاكل، حتى لو كان علينا أن نتعافى».
من جهته، قال ستولتنبرغ في تلك الفترة إن الحلف ما يزال «قوياً» مؤكداً أن «الولايات المتحدة وأوروبا تتعاونان معا أكثر مما فعلنا منذ عقود». أما موسكو فرحبت طبعا بتصريحات ماكرون على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا التي كتبت على صفحتها في موقع فيسبوك، «إنّها كلمات من ذهب. إنه تعريف دقيق للواقع الحالي لحلف شمال الأطلسي».
التصريح غير المسبوق الذي كان قد أدلى به الرئيس الفرنسي آنذاك لم يعد أحد يذكره ولا يريد حتى أن يفكر فيه مع حرب أوكرانيا والخوف الكبير الذي ينتاب الأوروبيين من تداعيات هاته الحرب عليهم أمنيا وطاقيا وغذائيا بل وحتى وجوديا؛ فالكل يريد أن يظهر في صورة أن دول الحلف متحدة، وأنه إلى جانب الأزمة الأوكرانية فإنهم متفقون على كل شيء؛ ويمكن اعتبار تصريحات الفرنسي آنذاك غير استراتيجية وغير حكيمة وهو ما جسدته تبعات الحرب في أوكرانيا وسعي دول أخرى الالتحاق بالحلف وإعادة التفكير بشكل جذري في سياساتها الدفاعية محلياً وإقليمياً.
ولعل أبرز التداعيات انضمام فنلندا هاته الأيام إلى الحلف لتصبح الدولة الاسكندنافية التي تتشارك مع روسيا حدودا بطول 1300 كيلومتر، العضو الحادي والثلاثين في حلف شمال الأطلسي في ذكرى تأسيسه في الرابع من نيسان/ أبريل 1949؛ ونحن نعلم أن اندماج فنلندا إلى الحلف هو بمثابة نقطة تحول تاريخية لهذه البلاد؛ فهي التي دافعت لعدة عقود عن سياستها عدم الانحياز العسكري لأي طرف...
فقد خضعت فنلندا للسيطرة من قبل جارتها لمدة قرن حتى اندلاع الثورة الروسية في 1917. منذ تلك الفترة، تواجهت روسيا مع البلد الشمالي مرتين، (1939 - 1940) و(1941 - 1944)، لكن فنلندا خسرت كلتيهما؛ وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، تبنت فنلندا موقف الحياد، الذي تطور لاحقا نحو مبدأ عدم الانحياز عسكريا إثر انهيار الاتحاد السوفياتي سابقا.
ولطالما اعتبرت هذه السياسة بمثابة حماية تجاه روسيا، خوفا من صراع جديد مع جارتها، ولكن مع الحرب في أوكرانيا، تطورت الاستراتيجيات الحربية وبدأ ينظر إلى الحلف كمصدر أمن شبه موثوق فيه...
وسيزيد الطول الإجمالي للحدود بين روسيا والحلف الدفاعي بمقدار الضعف تقريبا؛ وستستفيد هلسنكي من الحماية التي يوفرها البند الخامس من ميثاق الناتو الذي ينص على أنه إذا تعرضت دولة عضو لهجوم مسلح، فإن الدول الأخرى ستعتبر هذا العمل هجوما مسلحا موجها ضد كل الأعضاء وستتخذ الإجراءات التي تعتبر ضرورية لتقديم المساعدة للبلد المستهدف.
تعتبر موسكو طبعا هذا الانضمام تهديدا مباشرا لمصالحها وسيادتها وتصعيدا جديدا للوضع المتأزم بالفعل جراء الحرب مع أوكرانيا، وهو ما يعتبر مصدر قلق عند الفنلدنيين، ولكن في المقابل يعتبر حلف شمال الأطلسي إلى فنلند وإلى الانضمام المرتقب للدولة الإسكندنافية الأخرى وأعني بذلك السويد على أنهما حصن منيع على ضفته الشمالية الشرقية.