أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: اعلموا أن ليلة القدر في رمضان خاصة دون سائر العام، والبرهان على ذلك برهان مركب من نصين كريمين: قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، فنزول القرآن في شهر رمضان مقدمة أولى.. وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، فهذه مقدمة ثانية؛ أعني نزول القرآن في ليلة القدر.. والنتيجة أن ليلة القدر في رمضان؛ لأن القرآن نزل في رمضان، ورمضان عدة ليال، وقد نزل في ليلة القدر؛ فصح أن ليلة القدر من ليالي رمضان، وليلة القدر ثابتة إلى يوم القيامة، لا يخلو رمضان ما من ليلة القدر.. والبرهان على ذلك عدة أمور:
أولها أن الله قال عنها: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا ، ولم يقل تنزّلت، فصيغة المستقبل {تَنَزَّلُ} دالة على الديمومة.. وثانيها إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على ذلك، ولا معنى لأي خلاف بعدهم؛ بل أجمع على ذلك المحدثون وجمهور الفقهاء.. وثالثها قال صلى الله عليه وسلم: (ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). رواه البخاري وغيره؛ فهذا خطاب عام للأمة المحمدية إلى أن تقوم الساعة وينقطع التكليف، وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمرنا بقيام ليلة القدر ولا يكون في رمضان ليلة قدر كما زعمت الرافضة وقلة تابعتهم من أهل الرأي.. ورابعها أن النصوص تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نتحراها في العشر الأواخر من رمضان، وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمرنا بتحري معدوم.
قال أبو عبدالرحمن: اعلموا أيها الأحباب أن ليلة القدر من مواسم العمر التي لا تعوض لما فيها من فيوض رحمة الله وعفوه وعونه على الاستقامة والثبات، وإنني لأبكي عمري في سنوات كنت فيها من الغافلين، والقاعدة للعبد المسلم أن أجره على قدر نصبه، ولهذا لم يعين الله ليلتها ليحصل الجد في تحريها، وليظهر صدق عبودية من يلتمسها، ولم يغيب الله علمها بإطلاق رفقاً بعباده ورحمة، وإنما حددها في ليلة مبهمة من عشر ليال آخر الشهر، فليس من الشاق على العبد أن يجتهد في العبادة عشر ليال، ومضمون له أن يوافق ليلة القدر في إحداهن.
واعلموا أيها الأحباب أن المواسم الخيرة تبهم في زمان معين كساعة الإجابة في يوم الجمعة للملمح الذي ذكرته لكم، وأن الخلاف في تعيين ليلة القدر بلغ أربعين قولاً، وهكذا يكون التشتت في ابتغاء تعيين ما لم يقض الله بتعيينه لخلقه.
قال أبو عبدالرحمن: والذي أوصي به كل مسلم أن يعتقد جازماً بلا تردد أن لا سبيل إلى احتمال أن ليلة القدر في ليلة معينة بأي دلالة شرعية، وأنه لا مطمح للعبد في موافقة ليلة القدر بيقين لا شك فيه إلا إذا اجتهد في العبادة واعتبر كل ليلة من العشر الأواخر ليلة قدر، فها هنا لن يخيب، وسيكون وافق ليلة القدر حتماً، وإنما قلت لا دلالة في نصوص الشرع ألبتة على أن ليلة القدر في ليلة معينة -وإن ورد النص بأنها في الوتر من العشر الأواخر- لعدة براهين ضرورية لا محيد عنها:
أولها: أن المسلم لا يعلم بداية العشر الأواخر من رمضان حتى يطلع هلال شوال، فيحتمل أن يكون الشهر ثلاثين يوما فتكون ليلة واحد وعشرين أولى ليالي العشر الأواخر، وتكون ليالي الوتر ليالي 21، و 23، و25، و27، و 29، ويحتمل أن يكون الشهر تسعة وعشرين يوما فتكون ليلة عشرين أولى ليالي العشر الأواخر، وتكون ليالي الوتر من ليالي العشر الأواخر ليلة 20، و22، و24، و26، و28، و30 ، وكل هذا لا سبيل إلى العلم به إلّا بعد هلال شوال، والعلم بليالي الوتر بعد ذلك لا ينفع من أضاع ليالي من العشر يحسبها غير وتر فكشف طلوع هلال شوال عن كونها وتراً؛ فهذا يعني أن تحري ليلة القدر يبدأ من ليلة عشرين إلى طلوع هلال شوال، وهذا أمر غفل عنه علماء العصر، ولم يتعلمه عوام المسلمين الحريصون على تحري ليلة القدر.
وثاني البراهين: أنه لم يرد في الشرع نصب علامة على ليلة القدر تكون في بدايتها، وإنما ورد علامتان في صبيحتها: إحداهما خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو رؤياه الكريمة أن يسجد في صبيحتها على ماء وطين، وقد صح أن المسجد وكف بالمطر في صبيحة ليلة إحدى وعشرين، وفي ليلة ثلاث وعشرين. ولم يثبت أن المسجد لم يكف بقية العشر.
قال أبو عبدالرحمن: ولا نستبعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ليلة القدر بتحقق رؤياه بعد ما أنسيها، ولكنه لم يعينها لأمته فأمر بتحريها في الوتر من العشر، وقد قلت لكم إن كل ليلة منذ ليلة العشرين يحتمل أن تكون وتراً إلى أن يطلع هلال شوال.
وأخراهما: أن شمس صبيحتها تطلع بلا شعاع، وما ضمن الله لنا علم ذلك، فقد يكون ذلك أول طلوعها قبل أن تشرق علينا فنراها.
وثالث البراهين : لو كانت ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة، ولو كانت ليلة سبع وعشرين ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم في العشر الأواخر فاطلبوها في الوتر منها.. قال ذلك بمقابل أن رجالاً رأوا أنها ليلة سبع وعشرين.
وإذن فكل ليلة من ليالي الوتر ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي تفسير للوتر وليست تعييناً لليلة.
قال أبو عبدالرحمن: ألا فليعلم جميع المسلمين أن المسلم لن يضمن موافقة اجتهاده في العبادة والدعاء لليلة القدر حتى يجتهد العشر الأواخر كلها ابتداء من ليلة عشرين.. واعلموا أيها الأحباب أن ليلة القدر غير متنقلة بمعنى أن تكون في عام مثلاً ليلة ثلاث وعشرين، وفي عام ليلة سبع وعشرين. بل هي ليلة واحدة ثابتة معينة فعلم الله مبهمة في علم الخلق.
والبرهان على ذلك أن الله سبحانه قال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، ولم يقل في ليلة قدر.
وبرهان آخر وهو أنها لو كانت متنقلة لكانت رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم للدلالة على عام واحد، وليس كذلك سياق الحديث، فسياقه يدل على أنها ليلة ثابتة.
وبرهان ثالث وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي في العشر الأواخر في تسع يمضين أو في سبع يبقين، ولو كانت متنقلة لقال: تارة في تسع، وتارة في سبع.
وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي غير متلو، وما كان ربك نسياً.
واعلموا أيها الأحباب أن ليلة القدر عظيمة القدر لقوله تعالى: خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ؛ فهذا أحد معاني تسميتها، وهي أيضاً ليلة تقدير لقوله تعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ، وقوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ وهذا شامل لتقدير الأقدار والأرزاق والآجال في تلك السنة، وتعليل التسمية بأكثر من معنى وارد، فإننا نجد في الصلاة الشرعية جميع المعاني اللغوية لمادة الصاد واللام والحرف المعتل.قال أبو عبدالرحمن: حري بمن تحرى ليلة القدر أن يحسن الله خاتمته وأن يحييه حياة طيبة، لأن الله يمحو ويثبت، وتحري ليلة القدر التجاء إلى الله واستعاذة بقدرته في وقت إجابة وتقدير وسلام إلى مطلع الفجر.. وما أفتيتكم أيها الأحباب إلّا بمقتضى أصول الأخذ بالظاهر التي أرجو أن ألقى الله عليها متمثلاً لمقتضاها غير مغير ولا مبدل ولا صارف بلا برهان، ولقد بكرت لكم بالحديث عن ليلة القدر قبل أوقات تحريها لتعقدوا العزم في وقت مبكر، ولتوطنوا النفس، وليكون عندكم مهلة للمراجعة إن لم تثقوا بفتواي، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
(محمَّد بن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -