مشعل الحارثي
عندما حل طائر الروح في يوم الخميس 21 رمضان 1436هـ الموافق 9 يوليو 2015م ورمى شباكه التي لا تخطئ أبداً فانتزع منا أحد رجال الوطن المخلصين وأبنائها البارين وشامة على الجبين وعلامة فارقة على مر السنين، ذلكم هو الأمين المكين والحصن الحصين على سياسة المملكة العربية السعودية الخارجية وطوال أربعة عقود، الذي أعطى بجزل وأجزل ببذل ومنح الوطن مهجته وزهرة عمره وشبابه ووضعه رمشاً ومقلة وسار به نحو القمة.
إنه الأمير سعود الفيصل النجم الساطع اللامع البارع الفارع الرائع، القامة والشهامة والوسامة، ورجل المواقف التاريخية الشجاعة والحنكة السياسية والخبرة الدبلوماسية وعميد وزراء الخارجية في العالم الذي وافاه الأجل المحتوم بمدينة «لوس أنجلوس» بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان يتلقى العلاج من مرض «باركنسون» رحمه الله وأسكنه فسيح الجنان.
إنه ابن الفيصل وتربية أبيه وصنعته التي غرست وأسقت فأعشبت وأزهرت فخراً وذخراً وعلماً وعملاً وأملاً ودرعاً للوطن، وكما أكده سموه في حوار صحفي قديم وهو في مقتبل حياته وعنفوان شبابه وقبل نحو ستة عقود من الزمن عندما قال: (إن كل ما توصلت إليه يعود الفضل الأكبر في تحصيله لأبي الذي رباني فأحسن تربيتي وعلمني الثبات والاعتماد على النفس).
وعندما شعر سموه بدنو أجله بعد تعثر وسوء حالته الصحية التي لم تعد تساعده لإكمال مسيرته وصولاته وجولاته في خوض بحار السياسة المتلاطمة ودهاليزها العميقة وفخاخها الشائكة تقدم لمقام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله وبقلب المؤمن الصابر المجاهد حق الجهاد طالباً إعفاءه من منصبه الذي كان وقعه قاسياً وصعباً عليه حفظه الله وعبر عنه بكلمات تبرز مكانته في نفسه ودوره العملي الكبير الذي اطلع به طوال حياته وفي عهد أربعة ملوك من ملوك المملكة العربية السعودية على التوالي وهم الملك خالد وفهد وعبدالله وسلمان فقال حفظه الله: تلقينا طلب سموكم إعفاءكم من منصبكم لظروفكم الصحية، وما حمله الطلب من مشاعر الولاء الصادقة لدينكم وملككم ووطنكم، وهذا ليس بمستغرب على سموكم.
فقد عرفناكم كما عرفكم العالم أجمع على مدى أربعين عاماً متنقلاً بين عواصمه ومدنه شارحاً سياسة وطنكم وحاملاً لواءها، ومنافحاً عن مبادئها ومصالحها، ومبادئ ومصالح أمتكم العربية والإسلامية، مضحين في سبيل ذلك بوقتكم وصحتكم، كما عرفنا فيكم الإخلاص في العمل والأمانة في الأداء والولاء للدين والوطن فكنتم لوطنكم خير سفير ولقادته خير معين.
ويعلم الله أن تحقيق طلب سموكم من أصعب الأمور علينا وأثقلها على أنفسنا، إلا أننا نقدر عالياً ظرفكم، ونثمن كثيراً مشاعركم، وإننا وإن استجبنا لرغبة سموكم وإلحاحكم غير مرة فإنكم ستكونون -إن شاء الله- قريبين منا ومن العمل الذي أحببتموه وأحبكم وأخلصتم فيه وبذلتم فيه جهدكم بلا كلل ولا ملل، تتنقلون من موقع إلى آخر تخدمون فيه دينكم ثم وطنكم في مسيرة حافلة بالنجاح ولله الحمد، سائلاً المولى القدير أن يمنّ على سموكم بدوام الصحة والعافية، وأن يحفظكم ويرعاكم ويسدد على دروب الخير خطاكم.
وعندما تمت الموافقة الملكية الكريمة على طلبه وصدور أمر تعيينه وزيراً للدولة وعضو مجلس الوزراء والمستشار والمبعوث الخاص لخادم الحرمين الشريفين والمشرف على الشؤون الخارجية قدم سموه رده على تلك المكرمة والرسالة الملكية ومما قاله سموه في هذه الرسالة: بداية أحمد المولى عز وجل أن شرفني بخدمة بلد الحرمين الشريفين وزيراً لخارجيتها على مدى أربعين عاماً، رافعاً أكف الضراعة إلى العلي القدير أن يحتسبني من المجتهدين الذين إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا نالهم أجر الاجتهاد، وأسمى آيات الشكر والامتنان والاحترام تظل عاجزة عن التعبير عما يجول في خاطري لمضامين رسالة مقام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وما غمرني به من كلمات أحسبها تعبر عن كرم نفسه وأصالة معدنه، أكثر مما يستحقه شخصي المتواضع، وأكبر من جهد المقل الذي صاحب عملي وزيراً للخارجية. ولا غرو فقد علمنا الملك سلمان الوفاء للوطن والمواطنين ولكل من أسهم - ولو بجزء يسير - في خدمة بلادنا العزيزة. وسوف أظل الخادم الأمين لهذا الوطن ولسيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في ما شرفني به من مهام، مستمداً العون من الله عز وجل، مستنيراً بالتوجيهات الكريمة للقيادة الرشيدة أيدها الله بتوفيقه وسداده، ولا بد لي قبل أن أختتم أن أتقدم بوافر الشكر والتقدير والعرفان لكل زملائي بوزارة الخارجية، الذين عاصرتهم منذ بداية عملي في الوزارة وحتى مغادرتي لها، وبذلوا الغالي والثمين - ولا يزالون - في خدمة هذا الوطن ورفعته، وتمثيله على النحو الذي يليق به، وأن أشد على أيديهم مصافحاً بعبارات بارك الله فيكم وفي جهودكم وكثر الله من أمثالكم).
وبكل ما حملته هذه الرسالة من مشاعر ومعاني الحب والإخلاص والولاء الا إنها كانت تمثل رسالة وداعية مؤثرة ودع فيها سموه دنياه وقيادته الحكيمة ورفقاء مسيرته وزملاءه وعمله الذي وجد فيه راحته وعطاءه المتواصل الذي كان يحفزه دوماً على التفاني لخدمة قيادته ووطنه وأمته العربية والإسلامية، فكان بحق لسانها الصادق الأمين وحسامها الصارم في آن واحد.
ولعلنا نستعرض هنا وباختصار بعضاً من جهود سموه الدبلوماسية التي بذلها إقليمياً ودولياً في الكثير من القضايا والأحداث السياسية وما لعبه من دور كبير ومؤثر في أغلب هذه المواقف والأحداث التي ساهمت في تقدم ورخاء المملكة ودعم واستقرار العالمين العربي والإسلامي ونصرة قضاياه العادلة والمصيرية، ويأتي في مقدمتها القضية العربية المحورية قضية فلسطين وموقف المملكة الثابت تجاهها في تحقيق السلام العادل والشامل والدائم، وكذلك دوره الدبلوماسي في حرب الخليج الأولى الحرب العراقية الإيرانية والتي بدأت سنة 1980م واستمرت حتى سنة 1988م، وكان يسعى حينها أن يتم الأمر بين الطرفين العراقي والإيراني بالحل السلمي حتى لا تنتشر الحرب وتعم المنطقة، وفي حرب الخليج الثانية عندما قامت القوات العراقية في 2 أغسطس 1990م باجتياح الكويت، وعلى إثر ذلك قامت السعودية من خلال سعود الفيصل وبتوجيهات من الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله بحشد تحالف دولي مكون من 32 دولة عربية وغربية وذلك في 17 يناير 1991م، بعد أن باءت المحاولات بشأن التفاوض بالفشل، وقد تم تحرير الكويت في 28 فبراير 1991، وشهد سموه الغزو الإسرائيلي للبنان والانتفاضتين الفلسطينية،كما لعب سموه دوراً كبيراً في الجهود التي أدت إلى وضع حد للحرب الأهلية اللبنانية، والتوصل إلى اتفاق الطائف سنة 1989م، وعاصر في فترة توليه للوزارة عدة أحداث أخرى عظام غيرت وجه العالم وجعلته يعيش في توتر دائم، ومن أبرزها تفشي ظاهرة الإرهاب والجماعات المتطرفة وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، والغزو الأمريكي للعراق، وثورة الربيع العربي وما تبعه من أحداث في كل من سوريا واليمن ومصر وليبيا.
وإلى جانب ذلك فقد رأَسَ سموه وفد السعودية في العديد من الاجتماعات الخاصة بالقمم العربية والإسلامية بالنيابة عن ملك البلاد، بالإضافة إلى رئاسته الدائمة لوفود السعودية للاجتماعات الخاصة بوزراء الخارجية العرب والمسلمين، وكذلك اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة السنوية للفترة التي قضاها كوزير للخارجية، وكان له مساهمته ودوره البارز في تأسيس مجلس التعاون الخليجي في عهد الملك خالد بن عبد العزيز رحمه الله ومشروع وثيقة إعلان إنشاء المجلس التي أوضحت بأن إنشاء هذا المجلس جاء تماشياً مع أهداف الوحدة العربية وفي نطاق ميثاق جامعة الدول العربية.
كما تولى سموه العديد من المناصب والمهام منذ بدء حياته العملية وصولاً لعمله كوزير للخارجية فقد امتد عطاؤه ليشغل أيضاً عدة مهام أخرى منها: عضو المجلس الأعلى للبترول، عضو مجلس إدارة الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وإنمائها، وكان عضوًا مُنْتَدَبًا في مجلس إدارتها منذ تأسيسها حتى عام 1427هـ، عضو مجلس الأمناء بمؤسسة الملك فيصل الخيرية ورئيس مجلس إدارة مدارس الملك فيصل، وبحكم عمله وزيرًا للخارجية شارك بعضوية في كثير من اللجان العربية والإسلامية، مثل اللجنة العربية الخاصة، ولجنة التضامن العربي، واللجنة السباعية العربية، ولجنة القدس، واللجنة الثلاثية العربية حول لبنان ضمن وزارة خارجية الدول الثلاث وغيرها.
نسأل الله الرحمة والغفران لفقيد الأوطان سعود الفيصل ولنا على فراقه الصبر والسلوان وأمثاله لن يغيب كوكبهم في سمائنا ولن تنطفئ أقمارهم في حياتنا لأنهم ممن أسسوا وأقاموا بنيان الوطن على أسس ثابتة وصلبة، وزرعوا فينا الحلم أعشاباً مخضرة مرفرفة بلون الأمل والأمن والسلام مخلفاً وراءه تاريخاً حافلاً بالنجاح وصفحات مشرفة من البذل والعطاء والرفعة والإباء.