د.قيس بن محمد المبارك
روى الإمام مالك في الموطأ أنَّ أبا الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي رضي الله عنهما، أن هَلُمَّ إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: (إن الأرض لا تقدس أحداً، وإنما يقدس الإنسان عمله).
فالأرض المقدسة، لا تطهر الإنسان من ذنوبه، وإنما الذي يقدس الإنسان عملُه الصالح، فالذنوب إنما تكفرها التوبة والعمل الصالح، لا البقعة، وإنْ كان للبقعة تعلُّقٌ في مضاعفة الحسنات وتكفير السيئات، فضلاً من الله ومِنَّة.
تذكرتُ كلمة سيدنا سلمان رضي الله عنه حين بلغني خبر وفاة صاحب الأيادي البيضاء، والسماحة والعفَّة والنزاهة، فضلاً عن المكارم، وهو العم الشيخ عبد الرحمن الفوَّاز - أبو موسى -، رحمه الله، الذي يَصدُقُ عليه قول عبَدة بن الطبيب التميمي في قيس بن عاصم المنقري رضي الله عنهما:
وما كانَ قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ واحدٍ
ولكنَّه بُنيانُ قومٍ تهدَّمَا
فقد كان رحمه الله مثالاً يُحتذى للتاجر السَّمْح الصدوق، وكأنَّه في بيعه وشرائه يترسَّمُ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري: (رحم الله رجلا سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى) ويترسَّمُ ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سنن الترمذي: (التاجر الصدوقُ الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)
وكان مثالاً يُحتذى في البذل والعطاء بلا منٍّ ولا أذى، بخلاف مَن يَطلبُ بعطائه ثناء الناس، فهو مُراءٍ، وبخلاف من يطلب بعطائه جزاءً، فهو تاجر، وكلاهما لا يستحق حمدا ولا مدحا، فتحمل المننِ من المخلوق مِن أعظمِ المِحن.
أما أبو موسى، فيشهد له جمهور الناس من أهل الفضل والصدق، بأنه نقيَّ السريرة، وأنَّه ممن يصدق عليه قول الله تعالى: ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى ، والمؤمنون شهداء الله في الأرض، وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري: (هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجبت له الجنة) فأهل الفضل يرون أن أبا موسى لا يشهد في عطائه إلا مِنَّةَ الله، وشهودُ المنة مِن الله أعظم نعمة، وهي أعلى درجات الإنفاق، وما أعظم ثواب من لا يريد بإنفاقه إلا وجه الله تعالى، فلا يراعي من الأحوال إلا استحقاقَه، فما أجمل هذا العطاء الخالي من طلب الجزاء والشكور، فهو أشرفُ للباذلِ وأهنأ للقابل.
لقد أكرم الله الشيخ عبد الرحمن حين وهبه حسن العطاء، فقد كان كثير العطاء، وكان سمحاً في البيع والشراء، وكان ليِّن الجانب مع مَن المحتاج، فزاده الله فضلاً وعزَّاً ورِفعةً، فكان عطاؤه للناس، روى الإمام مالك في موطَّئه: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزَّاً، وما تواضع عبد إلا رَفعه الله).
وهذه مكارم الأخلاق، فحُسْنُ الخلق هِبةٌ ومنَّةٌ مِن الله على عبده، ومن أراد أن يعرف ذلك فلْيَتْلُ قولَه تعالى: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ .
وهذه المكارم هي الباقي للإنسان بعد موته، فإنما المرء حديث بعده، كما قال ابن دريدٍ في مقصورته، قال صالح السويسي:
(فبنو آدمَ طُرَّاًإخوةٌ
فازَ منهمْ مَن إلى الخيرِ سعى)
لقد انطوتْ أيام حياة الشيخ عبد الرحمن يوم الجمعة، في التاسع من شهر الصيام المعظم، ليرحل من دارٍ دُنيا، إلى دارٍ يَكتحلُ فيها بمرأى مقعده في الجنَّة إن شاء الله تعالى، وللمؤمن أن يستشعر هذا المعنى، ويتذكر أن قبر المؤمن روضة من رياض الجنة، فقبورنا قصورٌ لنا، فموت المؤمن ليس عَدَماً محضاً، بل جعله الله انتقالا من دار ابتلاء إلى دار نعيمٍ لمن أطاعه، وقد قال كعب الأحبار: (إذا أحببتم أن تعلموا ما للعبد عند ربه فانظروا ماذا يتبعه من حسن الثناء).
روى الإمام مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم إذا مات، عُرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إنْ كان مِن أهل الجنة، فمِن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمِن أهل النار، يقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة).
أسأل الله أن يجبر مصاب أهله وأن يبارك في أولاده، وأن يجمعنا به في جنَّات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وعزاؤنا فيه ما يُرضي ربَّنا الصبر والدعاء، فهو إلى الدعاء أحوج منه إلى الثناء.