م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1 - حينما نكتب هل نحن نكتب للآخر أم نكتب لأنفسنا؟ وحينما نكتب هل نكتب لأنفسنا أو عن أنفسنا؟ وحينما نكتب هل نسترجع الذكريات أم نكتشفها؟ وحينما نكتب عن الآخر هل نحن فعلاً نكتب عن ذلك الآخر، أم نحن فقط نزاول الإسقاط، بمعنى أن ما نكتبه عنه هو في الحقيقة عن أنفسنا؟ تلك هواجس عجيبة تمر بخاطر أي كاتب أمضى عمره في الكتابة، ثم يكتشف في نهاية المطاف أنه في الحقيقة إنما يكتب عن نفسه في كل ما كتبه عن الآخرين أو ضد الآخرين أو مع الآخرين.. فهو في كل حالاته ومواقفه إنما يكتب عن نفسه!
2 - قال «سبينوزا» قبل قرون: (إن ما يقوله بولس عن بطرس، يخبرنا عن بولس أكثر مما يخبرنا عن بطرس).. وهو بذلك يريد أن يقول: ما يكتبه الكاتب عن شخص ما هو في حقيقته يخبرنا عن نفسه أكثر مما يخبرنا عن ذلك الشخص.. فمن طبيعة البشر أنهم في حديثهم عن غيرهم يعمدون إلى الإسقاط، وهي حالة دفاعية نابعة من غريزة الإنسان في حماية نفسه.. من هنا نجد أن من أمثال الشعوب: (كلٌّ يرى الناس بعين طبعه) أو (كل إناء بما فيه ينضح).
3 - قرأت لروائي شهير يقول: كل رواية نشرتها فيها شيء مني، من شخصيتي، ورغباتي، وطموحاتي، وأمنياتي، وعلاقاتي، وأحاسيسي ومشاعري، ومواقفي، فيها وصف لأشخاص أعرفهم، ملامحهم، أخلاقهم، أسماؤهم.. ثم يزيد بالتأكيد على أنه ما من روائي كتب رواية إلا وتجد فيها شيئاً من نفسه، مهما حاول الادعاء بغير ذلك.
4 - وجهة نظري الشخصية أنني أرى فيما يقولونه الحقيقة، فقد رأيتها في نفسي.. نعم، لقد قضيت الجزء الأكبر من عمري مدعياً غير ذلك لكني الآن وبعد هذا العمر الطويل في الكتابة أبصم بأصابعي العشرة على صحة ذلك الكلام.. ألسنا ندعي نحن الكُتَّاب أن الكتابة حالة من حالات التنفس؟ وحينما تخرج الزفرة من جوف الإنسان ألا تخرج معها أنفاسه وروائح جوفه، وهمومه، وأحاسيسه، وردات فعله.. فإذا كان الكاتب يرى في الكتابة أنها رئته الثالثة ألا يجعل في كل ما يكتب جزءاً منه، وجزءاً من روحه وشخصيته؟
5 - الأمر الآخر إذا عرفنا أن البشر يتسمون بازدواج في الشخصية، وأنها سمة فطرية ذات بعدين أساسيين؛ الأول ظاهر ويتمثَّل في السلوك اليومي للفرد، وآخر باطن لا يعلم به إلا الفرد ذاته، ونستخدم لوصف تلك الحالات أوصافاً مثل: التظاهر، التجاهل، الكذب، النفاق، المجاملة، الادعاء، التصريف ... إلخ.. فتحت كل تلك المظلات، ما الذي يظهر في كتاباتنا منها؟ أؤكد لكم أنها في أحيان كثيرة تظهر كلها في نص واحد.
6 - في الرواية تظهر بوضوح الإسقاطات والإحالات التي تشير إلى الذات أكثر من إشارتها إلى الآخر.. وإذا نظرنا إلى الرواية مثلاً لوجدنا أن مكوناتها الأساسية هي المكان والزمان والشخص والحدث.. فإذا أراد الروائي الابتعاد عن تهمة الإسقاط أو النأي بنفسه عن الحدث أو الشخصية فهو يبدأ بجمل عمومية مثل: حدث ذات مرة، أو كان يا مكان في قديم الزمان.. وهنا يقع الروائي في الفخ من حيث يدري أو لا يدري، فهو في الحقيقة لم يحيّد الزمان ولا المكان وإنما أقصاهما وبقي هو وحيداً ظاهراً للعيان، فيصبح سؤال الهوية في هذه الحالة هو: (من أنا؟) وليس: (أين أنا؟).