رضا إبراهيم
لا شك في أنه من خلال عملية التخيل، يمكن للفرد الاتصال بالعديد من الأشياء الحقيقية الواقعية، التي هي موجودة بالفعل والغائبة على المستوى المادي، علماً بوجود العديد من الفروقات والتباينات بين كثير من الأشخاص، من نواحي القدرة على التخيل وتشكيل الصور الذهنية الحية الواضحة. وعلى الرغم من كل ذلك، فلدي كل إنسان صور في ذهنه، دون النظر لطبيعة تفكيره، أو رغباته المماثلة بوعيه أو مدركاته.
والتخيل يقدم للشخص أموراً هادفة، عند وقوعه تحت ضغط كبير أو ألم شديد، والتخيل يحفظ الصحة النفسية لدى صاحبه، ويبعدها عن المرض والاعتلال، وهناك حالات كثيرة أقر بها أسرى الحرب كمثال أثناء احتجازهم في معسكرات الاعتقال، بأنهم تمكنوا من إنقاذ أنفسهم من الانهيار النفسي، عبر صنع تخيُلات عاشوها أثناء فترة الأسر، ومن ثم بددت كربهم وأزالت آلامهم وقوت عزائمهم، بتحويلهم إلى عالم متخيل صنعوه بأنفسهم، وذلك كان فراراً صحياً وقائيًا ومنقذًا لهم. والملاحظ وجود كثير من البشر يشعرون باحتياجهم الشديد إلى القدرة على التخيل وافتقارهم له، إلا أن التطبيق المنهجي لتمارين التخيل، دوماً تخلق حساً قوياً بالقوة الذاتية الشخصية وبالسيطرة.
وتزداد أهمية التخيل في كونه يتتبع خطوة بخطوة، ويعمق الأسباب الكامنة التي تقف وراء الاضطراب النفسي، علماً بأن استيعاب وفهم وإدراك الدور المهم، الذي يؤديه التخيل في حياة البشر اليومية، لهو أمر يشبه إلى حد كبير العثور على (مفتاح) لحل معظم ألغاز الأشياء التي تؤرق وتحير البشر أو تربكهم. وطالما كان من الأسباب الأساسية في الأخذ بالتخيل باعتباره معينًا قويًا، نظراً لأنه يعمل على اختراق حجاب المقاومة النفسية الطبيعية، حتى ينفذ إليها وهي ذات المقاومة التي تستخدم في العلاج النفسي التحليلي بالتمام والكمال.
إذ إن الطبيعة البشرية دوماً ما ترد على المواقف المؤلمة، من خلال إلقائها في بئر مظلم من النسيان واللاشعور، وقيام الشخص بمحاولة تجنبها وتحاشيها، وإبعادها تماماً عن ساحة شعوره، لكن في تلك العملية (التجنبية الهروبية) من العواطف السلبية المؤلمة المنافية، قد يجد الفرد نفسه دوماً عاجزاً عن قهرها والسيطرة عليها، ومن خلال السير قدماً بمتابعة النتائج المترتبة عن ذلك الهروب، وعبر ملاحقة الحوادث المتوارية في اللاشعور للكشف عنها ومواجهتها، فقد يتقابل الشخص وجهاً لوجه مع الحقيقة ويتجاوز الموقف، ما يجعله قادراً على رؤية الموقف رؤية هادئة ونزيهة، وعبر تلك الطريقة يكسب استبصاراً أفضل، ويبتدع طرقاً جديدة، تمكنه من التعامل مع المشكلات التي تواجهه.
ومن خلال اللجوء إلى استخدام الصور المتخيلة الموجهة نحو النجاح، فإن ذلك يعتبر أحسن ما تمثله تقنية العلاج التخيلي، أي أنه في حالة ما إذا تخيلنا أنفسنا بأنها منهزمة مع السلبيات، عند ذلك نصل في النهاية إلى الوقوع في غياهب «مستنقع الصعوبات النفسية»، وعلى العكس من ذلك تماماً، في حالة ما إذا تصورنا أنفسنا وهي تتصارع وتتعامل بشكل فعَّال، وبطريقة منهجية مع المواقف الناجحة، نكون قد تمكنا من الصول إلى أهدافنا، وفي كثير من الأحيان يتحول ذلك النجاح التخيلي، كي يصبح حقيقة على مستوى الواقع.
وقد طورت ذلك النمط دكتورة دوروثي سوسكيند الأستاذ المساعد بقسم التعليم والإرشاد بجامعة «لونغوود» بولاية فرجينيا الأمريكية، وقد أطلقت دكتورة سوسكيند على تلك التقنية اسم «صورة الذات المثالية»، وذلك النمط من التخيل مخصص لمساعدة الأشخاص الذين يعانون من ضعف الثقة بالنفس، بجانب شعورهم بأقل تقدير لذواتهم، وتتضمن التقنية العلاجية بذلك النمط خطوات عدة، أهمها أن يسترخي المتعالج (المريض) ثم يغلق عينيه، ويتخيل ذاته تمتلك الصفات والمهارات التي يرغب في أن توجد فيه، وفي الوقت نفسه يتعين على المتعالج المتدرب، أن يكون واقعياً لأبعد حد ممكن، فلا يتبنى تخيلياً أية خصائص أو صفات، قد تتجاوز إمكاناته أو قدراته الحقيقية الواقعية، لكنه يجب عليه تخيل الرغبات أو الصفات المميزة، التي يجب أن تكون فيه والممكن تحقيقها خلال فترة زمنية قصيرة.
فعلى سبيل المثال لا يجوز أن يتبنى موقفًا داعياً للرغبة في أن يكون ناجحاً، كون تلك الرغبة غامضة جداً، بل عليه تخيل ذاته متزنة ذات فضول ذهني، وذلك الغرض أو تلك السمة ترتبط بعلاقاته الاجتماعية الناجحة وما شابهها من صفات، كما يجب عليه أيضاً أن يقارن تخيلياً ذاته المتخيلة الجديدة، والمتسمة بالصفات المرغوبة بذاته الحقيقية الواقعية، لأن هذه الواقعية المتخيلة تمكنه من وضع أهداف فرعية، بحيث يمكنه الإسهام بشكل فعَّال نحو تحقيق السلوك الجديد والمرغوب فيه.
ولأن هناك جزءًا من بناء الثقة يكمن بالاستحضار تخيلياً، وتذكر نجاحاً من النجاحات التي سبق أن حققها المتعالج، فعليه أن يركز تخيلياً على المشاعر التي رافقت ذلك الإنجاز الناجح، وعليه كذلك أن يتقمصه مرة أخرى، واستحضار مشاعر الإنجاز الممكن تجمعها، وأن يحاول نقل الإنجاز والنجاح السابق إلى نشاطاته المستمرة القائمة، التي يرغب فيها أو يتقمصها ويرغب في تحقيقها تخيلياً، ويحاول أن يوضح تخيلياً صورة الذات الجديدة، ويجمعها في بؤرة الوضوح، ففي أي نشاط من نشاطاته اليومية، كالتحدث مع الأصدقاء مثلاً تأكيد للذات خلال اجتماعات مع الناس وغيرها من الأمور الأخرى، وأن يمزج تلك المواقف مع صورته المثالية للذات، ويقارنها مع تلك السلوكيات.
وحالة وجود مفارقات وتباينات بين الذات الواقعية والذات المثالية المنشودة، عندها سيسأل نفسه عن الأشياء التي تبدو له غير صحيحة، للوصول بذاته الواقعية إلى الذات المثالية المرغوبة، وحول قوة التخيل وقدرتها على التخلص من تلك العادات الضارة، مثل إدمان المخدرات والكحوليات وغيرها، فهناك أهمية كبيرة للتخيل العاطفي في التغلب على تلك العادات، فقد يُدرب المتعالج بتلك الحالة على الاسترخاء، ثم يطلب منه قراءة بعض المقالات (ثقافي ووعي ذاتي) عن أضرار شرب أو تعاطي هذه المنكرات، على المستويين النفسي والبدني، بهدف خلق أرضية المعرفية لتبديل السلوك وإحداث أشراط منفر.
ولأن مسألة الفطام هي مسألة سيكولوجية بالدرجة الأولى، رغم عدم إنكار العامل البيولوجي في العثور على الكحول، فيمكن تثقيف المتعالج بأهمية مناهضة الكلام مع الذات السلبي، الذي يعزز ما يطلق عليه لدي المدمن بـ (قلق الانزعاج)، الناجم عن الكف عن تناول المواد المخدرة والمسكرات، وذلك القلق يتعزز بالحديث السلبي مع الذات مثل «أنا لا أستطيع تحمل عدم شرب المسكرات، ولا أستطيع أن أعمل بدأب دون شرب، ولا أمتلك القوة الكافية لمنع نفسي من تناول المشروب» وغيرها من الأحاديث الأخرى.
علماً بأن مثل هذا الحديث السلبي، هو الذي يضعف الفعالية الذاتية في الإبقاء على الفطام، ويُعد سبباً لانتكاسات كثيرة نراها عند المدمنين، في مجالات للكف عن الشرب ولكن دون جدوى. وبجانب ما سبق يجب إبقاء التعالج المتخيل على المادة التي يتناولها يومياً مثل (البيرة) ولحجم معين منها كبديل عن (الخمر)، ويتم معالجته أيضاً بأسلوب العلاج التخيلي السلبي، من خلال جلسات عدة، في كل جلسة علاجية يطلب منه الطبيب الاسترخاء، بعد أن تم تعليمه هذه التقنية، ويطلب منه تخيل شرب كأس من البيرة برشفات ذات فواصل زمنية.
ثم يأخذ كأساً أخرى وأيضاً يستهلك خلال مدة طويلة نسبياً في الكأس الثالث، ليتصور أنه بدأ يشعر بالغثيان، إضافة لتدهور حالة «كبده المرهق» وزيادة آلامه، مع تخيل نصائح الأطباء له وصورة زوجته المخلصة له وتوسلها إليه لترك الكحول والامتناع عن شربه، وكذلك تخيل صورة أولاده الصغار وهم يناجونه (أبي) نحن بحاجة إليك، وكل تلك التخيلات المنفردة يطلب منه تخيلها ويستشعر بها بكل حيوية في ذهنه، عندما يصل إلى الكأس الثالث من البيرة، ما يجعله يتفاعل مع طبيبه المعالج تفاعلاً إيجابياً ويتعاون معه لأقصى درجة، حيث تؤدي هذه التصورات المتخيلة وربطها بثالث كأس، باعتباره الحد المقبول لاستمراره على تناول البيرة دون أذى نفسي أو بدني.
وعقب الانتهاء من كل جلسة، كان يُطلب منه القيام بتمارين منزلية، يجلس فيها مسترخياً ويحاول تخيل كل ما قرأه من مقالات عن أضرار الخمور نفسياً وبدنياً واجتماعياً، وربطها دوماً مع هذه التخيلات السلبية مع الكأس الثالث، وبعد جلسات عدة من ذلك النوع إضافة إلى التمارين اليومية، وامتناعه تماماً عن رؤية أصدقائه القدامى المدمنين، وتقيده بالبرنامج الأسبوعي الذي أعطي له، حيث كان يطلب منه تغطية معظم يومه بأنشطة خارجية تمتص كل اهتمامه وانتباهه وممارسة الرياضة، وقراءة الكتب التي يميل إليها باعتبارها أنشطة بديلة. وقد صرَّح نفر من الذين مروا بتلك التجارب التخيلية، بتغير نظرتهم تماماً إلى الكحول، وشعورهم بالنفور منها، وتبدل حالهم كلياً للأفضل.