رباب محمد
منذ أن بدأتُ أتابع عملًا جديراً وأنا في حالة لذيذة من التيقظ والتأمل وبعثرة النوم على ساعات متفرقة!
عدتُ إلى نفسي أتساءل هل الأعمال العظيمة تؤثر بهذا الشكل على المتلقي؟ وتجعله في تفكير متواصل لا ينقطع حتى في المنام؟
فقد انتابني في أغلب وقت المشاهدة خدر أشبه بالذي يشعر به المرء لثوان بعد أن ينعطف بسيارته متفاديًا تصادما في اللحظة الأخيرة.
إن الشيء الوحيد والأنيق والمهذب الذي يمكن أن نفعله حيال التأثر بهذه الأعمال الخالدة هو الصمت، فمن النادر أن يرى المرء شيئاً يأخذ باب حواسه، يسيطر على تفكيره ويجعله رهين مزاج ما بعد المشاهدة، سجين لتلك اللحظات والأفكار، عقله حائر هائم لا يهدأ وروحه تتوق إلى المزيد مما يحرك السواكن والنوابض!
العمل المميز يجعلك ترتبط بواقعك، يدخل أوصالك، يعمرك بالهدوء والدهشة كأنك أتيت للتو من عطلة في مجرة درب التبانة!
يحفز الأشياء الميتة فيك على البعث من جديد وعلى السؤال مراراً وتكرارًا، عليك فقط أن تستلم وتجعله يلبسك شيئا فشيئا، وقد تملك قدرة النقد حين تتخلص تماماً من سيطرة ذهوله على شغافك.
العمل النادر ذو المقاييس الخلاقة قادر على أن يجعلك تتجاوز مرحلة الأمان لخلق مرحلة جديدة تُسمى الاستثناء، يجعلك مُتصلبًا أمام محاولة نفي الفن عمومًا لأنه في المحصلة هو نفي للجمال للإبداع للمقدرة على قراءة ما حولنا بطريقة أكثر وأعمق تأثيراً.
يُعلمك أن المستحيل مالا يستحيل على الخيال وما يفيض عن الحدود وأن الإبداع قد يكون إقامة دائمة في النص المُشاهد والمقروء والمسموع، وليس محصوراً في رأي أو زمن معين بل يفيض ويتسع كلما ألهبه المُبدعون.
الفن المُترع بالحزن قد يقودنا إلى معرفة أنفسنا بعمق أكبر، قد يطلق هذا الميل غير المرغوب به في التوحد والتوصد إلى المشاركة الفعالة في المشاريع الحزينة التي تحتوي على طاقة كبيرة للتحريض على متابعة الحياة.
يدرك الإنسان في لحظة جنون عابر وجليل أن بإمكانه أن يكون ضيفُا على مائدة ابن جنّي، يسامر المتنبي في بلاط سيف الدولة الحمداني، ويحلق مع رسائل توماس مان وهيرمان هسه ويتجاذب أطراف الحديث مع السندباد البحري وكنز أدمون داتنس ويناله شيء من نفح العربية وسواقي الكلمة عبر العصور ومقامات القصائد وأساطير الحنين ويحفه غبار المنطق العربي الفيروزي وتضوع به مملكات الفلسفة...! وأن بوسعه أن يرى أيضا ليون تولستوي أو فيودر دوستويفيسكي برهة من الزمان!
الفنون العظيمة المُشاهدة أيا كانت تعلمنا أن نحترم الأشياء العابرة وتُعودنا على قراءة أي عطر هارب!
ربما لأن أول ما يقرأه القارئ أو المشاهد في العمل الإبداعي أيا كان سواء انتجه أو استهلكه هو ذاته!
تقودنا تلك الأعمال الإبداعية إلى تناغم لا نهائي على معالم الروح وتجميع المركبات العاطفية التي تُمثلها وتبسيط الموت بكلمة لأننا نُدرك أن المرء إزاء موته يكون وحيداً بالكامل!
وأنا أحاول النهوض من هذا التأثير اللذيذ الذي شملني أدركتُ أن الجمال قوة مخيفة ورهيبة فبمقدور الفن الاستثنائي أن يضعك أمام روحك وجهًا لوجه بلا أدنى حواجزأو سقوف، مواجهة عريضة تتمكن فيها من فهم نفسك وتأملها عن كثب!
الأعمال العظيمة تُعزز الحضارة والثقافة فالحضارة تُعلم أما الثقافة فتُنور تحتاج الأولى إلى تدريب وتعليم والثانية إلى تأمل.
المطلوب من الفن أو الكتابة أو الأدب أن ترى الحقيقة حقيقتها، أن يمكننا تفسير تحولات قد تطرأ على الواقع المتصل بالروح، وأن يُنتج الفن أكبر نسبة من الإنسانية في ذواتنا فليس ترفًا أن يكون المرء إنسانياً..