د.سالم الكتبي
فيما وصفه بعض المراقبين بخسارة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، رفع العلم الفنلندي مؤخراً في مقر حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث أصبحت الجارة الغربية لروسيا، فنلندا التي ظلت محايدة لعقود وسنوات، العضو الحادي والثلاثين في التحالف الذي يعيد إنتاج نفسه بعد تجاوز أزمة الهوية، التي عانى منها منذ انتهاء الحرب الباردة.
في ظل هذا التطور أصبحت حدود روسيا مع فنلندا بطول نحو 1350 كم تحدياً جديداً، التي تعتبر توسع حلف «الناتو» تهديداً وجودياً لها، حيث يمثل انضمام فنلندا للحلف أحد توابع حرب أوكرانيا، التي تسببت في إثارة قلق دول البلطيق، حتى أن الشعب الفنلندي قد أيد مقترح الانضمام للحلف بنسبة بلغت 80 %، ورغم أن روسيا قد شنت عمليتها العسكرية في أوكرانيا لتحقيق أهداف عدة منها إبعاد الحلف عن حدود روسيا، وقطع الطريق على فكرة انضمام أوكرانيا، فإذا بالمزيد من الدول الأوروبية تنضم للحلف، وفي توقيتات قياسية حيث تعتبر عملية انضمام فنلندا الأسرع في تاريخ الحلف، ولم تستغرق أكثر من عام للانتهاء منها. الموضوعية تقتضي القول بأن انضمام أوكرانيا لحلف الأطلسي يمثل خسارة إستراتيجية كبرى للرئيس الروسي، لأن حرب أوكرانيا قد تسببت - حتى الآن - في تداعيات سلبية عدة منها تمدد «الناتو» أكثر فأكثر باتجاه حدود روسيا، وتوحد الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، ضد روسيا، بدلاً من إضعافه، وبالتالي فإن روسيا لم يعد أمامها سوى مواصلة هذه الحرب الذي لا تلوح لها نهاية في الأفق المنظور.
فنلندا التي حافظت على حيادها طيلة فترة الحرب الباردة، واكتفت بعلاقة شراكة مع حلف الأطلسي منذ عام 1994، أي عقب انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، بادرت هذه المرة للانضواء تحت راية حلف الأطلسي رسمياً خشية تعرضها لغزو روسي، ما يعني أننا بصدد تحول إستراتيجي كبير في مفهوم الأمن الإقليمي، فضلاً عن تغير المعطيات الجيوسياسية في هذه المنطقة من العالم، حيث يعتقد أن تخلي فنلندا عن حيادها واتساع مساحة التماس بين حلف الأطلسي وروسيا من شأنه أن يضاعف احتمالات المواجهة بين الطرفين.
فنلندا ستحظى بوضعية إستراتيجية خاصة داخل الحلف بحكم كونها أحد أهم حراس البوابة الشرقية الأوروبية مع روسيا، حيث يتوقع أن يعزز الحلف دفاعات هذا البلد، كما يمكن نشر قوات وأسلحة أطلسية بموافقة هلسنكي، ما يضاعف فرص الحروب والأزمات في أوروبا، رغم أن الحدود التي تتشاركها روسيا مع الدول الأعضاء بحلف الأطلسي لا تزال تمثل نحو 6 % من إجمالي حدود روسيا الاتحادية. بلاشك أن انضمام فنلندا لحلف الأطلسي يمثل إنجازاً استباقياً مهماً للحلف، حيث يتوقع أن تطرح روسيا في أي مفاوضات مستقبلية محتملة لتسوية أزمة أوكرانيا، مسألة رفض قبول أي أعضاء جدد للحلف، وكان من المتوقع ألا يقتصر المطلب الروسي على ضمان حياد أوكرانيا، بل يمتد ليشمل فنلندا والسويد، الدولتين اللتين بادرتا بطلب الحصول على عضوية الحلف عقب الحرب مباشرة، ما يعني بالتبعية فقدان ورقة تفاوضية روسية مهمة، بمسارعة الحلف لضم فنلندا واقترابه من ضم السويد بعد زوال معارضة كل من تركيا وهنجاريا، حيث تشير التصريحات إلى أن هذه الخطوة يمكن أن تتم في يوليو المقبل، أي في توقيت قريب للغاية. المعضلة الروسية في انضمام فنلندا والسويد ليست شكلية كما يعتقد البعض، بل تنطوي على تحدٍّ نوعي حقيقي لروسيا، لأن جيشي البلدين يتمتعان بقوة عملياتية وتنظيمية كبيرة، وسيكون انضمامهما قوة إضافية للحلف على خلاف دول أخرى انضمت سابقاً للحلف مثل لاتفيا ولتوانيا، وسيكون لانضمامهما أثر أيضاً في موازين القوى العسكرية بين الحلف وروسيا في منطقة شمال أوروبا، حيث تمتلك فنلندا معها قوات نظامية واحتياطية يقدر عدد أفرادها بنحو 250 ألف جندي، إضافة إلى قدرات عسكرية خاصة في مجال المدفعية والقتال في ظروف شديدة البرودة، لذا يمكن للحلف الادعاء أن لديه قوة قادرة على مواجهة النفوذ الروسي في تلك المنطقة ذات الطبيعة التضاريسية الصعبة. ومن الواضح أن الدوائر الإستراتيجية الروسية لم تدرس بشكل دقيق ردود الفعل المحتملة لحرب أوكرانيا من جوانبها كافة، فلم تراع - على سبيل المثال - إثارة هواجس الشعب الفنلندي الذي يحتفظ بتاريخ أليم من المواجهات إثر غزو روسيا لبلاده خلال الحرب العالمية الثانية، مع ما يثيره ذلك من مخاوف خشية تعرض بلادهم لسيناريو مماثل لما حدث في أوكرانيا. أضف إلى ماسبق أن حلف الأطلسي بات يمتلك حدوداً جغرافية مضاعفة مع روسيا، نصفها في فنلندا.
حلف الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة يريد أن يبعث برسالة إلى الرئيس بوتين مفادها أنه أخطأ في حساباته بغزو أوكرانيا، وأن روسيا تدفع أثماناً باهظة لهذه الخطوة، وأن على الكرملين التراجع وتقديم تنازلات لإنهاء هذه الأزمة، ومع ذلك يجب الإقرار بأن حلف الأطلسي يتخذ خطواته تجاه روسيا بدقة شديدة، وهنا نشير إلى أن الحلف لم يقدم - حتى الآن - على أي خطوة بشأن ضم أوكرانيا، التي حصلت على وعد منذ عام 2008 بانضمامها، ما يعكس حرص الحلف على تفادي وقوع صدام عسكري مباشر مع روسيا والاكتفاء بصراع الإرادات الدائر في الآونة الراهنة.