محمد سليمان العنقري
ملفت للنظر الإعلانات عن الاتفاقيات التي تصدر عن دول عديدة ترغب باستخدام عملاتها في التبادل التجاري مع دول أخرى، فقد أعلنت الصين والبرازيل عن ذلك، وهو ما عبرت عنه واشنطن بأنه أمر مقلق، إضافة لما قامت به روسيا سابقاً من فرض شراء نفطها وغازها بالروبل، وكذلك إقامة تبادل تجاري مع الصين على أساس استخدام عملتي البلدين بعيدًا عن الدولار، كما ذكرت دول عديدة أنها لا تمانع من إتباع نهج البُعد عن الورقة الخضراء الأمريكية. والحقيقة أن ما يجري حالياً في هذا السياق لا يمكن فصله عن ولادة نظام عالمي جديد بدأت ملامحه في العام 1991 عندما تفكك الاتحاد السوفيتي، لكن التحولات الاقتصادية لهذا المولود الجديد برزت في السنوات التي تلت الأزمة المالية العالمية في 2008، وكان النظر لوضع الدولار ومكانته الدولية محل نقاش وجدال في حينها، إذ يرى البعض أن النظام المالي الأمريكي والسياسة النقدية التي تحركه كانوا السبب بتلك الأزمة، وأن علاجها أضعف مكانة الدولار والموثوقية به منذ ذلك التاريخ.
لكن في واقع الحال ارتأت القوى الاقتصادية الكبرى بأن إطفاء حرائق تلك الأزمة له الأولوية على أي تغيير بمكانة الدولار الذي انخفض حجم احتياطياته عالمياً، وكذلك نسبة التعامل به بالتجارة الدولية بأكثر من 20 بالمائة ليصبح عند 58 بالمائة. فصحيح أن الاقتصاد العالمي يتوسع وحجم التجارة الدولية فيه كذلك بما يعني أنه قد لا تكون انخفضت كمية الدولارات التي يتم تداولها خارج أميركا، إلا أن إعلان توجه العديد من الدول للتبادل التجاري بعملاتها يعد نقطة تحول مهمة في مكانة الدولار، فرغم أن وزيرة الخزانة الأمريكية قالت إنه لا قلق على الدولار في كونه عملة الاحتياط الأولى بالعالم، لكن مخاوفهم من تبادل البرازيل والصين تجارتهم بعملاتهم المحلية دق جرس الإنذار وأقلق واشنطن. وبما أن المواجهات الدولية بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين مع روسيا والصين قد أخذت منحىً تصعيديًا متعدد التوجهات، فإنه بالمقابل بدأت الأطراف الأخرى بالرد بعد أن استعدت مبكراً، فروسيا سحبت جل احتياطياتها من السندات الأمريكية ولم تبق إلا على نحو 2 مليار دولار بعد أن كانت قبل أربع سنوات عند 96 مليارًا، أما الصين فخفضت استثماراتها من نحو تريليون إلى ما يقارب 870 مليار دولار حالياً هبوطاً من 1.060 تريليون دولار في يناير 2022، وقد اتجهت الدولتان لإطلاق أنظمة خاصة بالتعاملات المالية للابتعاد عن نظام سويفت الذي تهيمن عليه بنوك أميركا وأوروبا ويقع تحت سطوة دولهم بما سمح لهم بتنفيذ عقوبات من خلاله على العديد من الدول بما فيها روسيا أخيراً بعد حربها على أوكرانيا.
فمن الواضح أن العالم الذي بدأ ينقسم لأقطاب عدة لم يعد من الممكن أن تبقى فيه الأدوات السابقة نافعة لتيسير شؤونه اقتصادياً، فالدولار أصبح يعاني من ارتفاع مديونية أميركا إلى 31 تريليون دولار، كما أن إفلاس البنوك الأمريكية وإن كانت من متوسطة وصغيرة الحجم يزداد عند أي أزمة اقتصادية كما حدث لسيلكون فالي إضافة لاحتمال تعثر عشرات البنوك الصغيرة مما يعني أن معاناة النظام المالي ستزداد وأن الأداة المستخدمة بضخ الدولارات بالبنوك لن تجدي نفعاً دائماً خصوصاً عندما تتناقض مع توجهات السياسة النقدية حالياً التي تقوم برفع الفائدة، مما جعل العالم والأسواق في حيرة من هذا التناقض الغريب، فكيف سيتم خفض التضخم برفع الفائدة المتسارع وبالمقابل يتم ضخ 300 مليار دولار بالبنوك لمعالجة نقص السيولة لديهم، فزيادة المعروض النقدي تؤدي لتعميق التضخم، وكذلك لتراجع القوة الشرائية للدولار وانخفاضه أمام بقية العملات الرئيسة بالعالم، فهذه التوجهات هزت الثقة بالفيدرالي الأمريكي بحسب خبراء واقتصاديين أمريكيين حيث إنه أكبر مؤسسة مالية رسمية موثوقة بالعالم لعقود طويلة، فيبدو أن قراءة دول مثل الصين وروسيا لسياسات واشنطن المعادية لها بات الرد عليها واضحاً بضرورة الاستقلال التام عنها مالياً بل وتكنولوجياً، وحتى أوروبا تنتظر اللحظة التي يصبح الطلب على اليورو أكثر من الدولار.
العالم يتشكل من جديد بكل المجالات والاقتصاد على رأسها، ولا يبدو الدولار خلال العقدين القادمين قادرًا على الصمود أمام هذا التحول الكبير من الدول للابتعاد عنه بتجارتهم الدولية، وبالتالي بوزنه في احتياطياتهم مما ينذر بهبوط حاد بقيمة الدولار مما سيمثل مشكلةً كبيرة لأميركا في قدرتها على الوفاء بالتزاماتها أو بجذب الاستثمارات لها، كما أن المؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد أو البنك الدولي بدأت تؤسس بدائل لها من منافسي واشنطن، وبذلك ستفقد أميركا وأوروبا الكثير من القوة والهيمنة الدولية بإضعاف هاتين المؤسستين، لأن جل الدول الناشئة ستتحول للكيانات الجديدة لتمويل تنميتها أو نفقاتها، فقد ملّوا من الإملاءات التي بطابعها اقتصادية لكنها ذات بعد وهدف سياسي يخدم تلك القوى المهيمنة عليها، فهل أصبحنا في مرحلة بداية نهاية الدولار، وما هو البديل؟