د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
في مطلع الشهر الماضي وبناءً على الأمر السامي الكريم تم تعيين رئيس وأعضاء مجلس أمناء مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية برئاسة سمو وزير الثقافة وعضوية مجموعة من كبار الخبراء والعاملين في حقول اللغة العربية وإدارة المعرفة, والمجلس احتفالية تفيض فخرًا بكيان المجْمع وأهدافه السامية تجاه ركن أصيل في هويتنا فاللغة العربية تمامها مشهود؛ فأمامنا مثال وشاهد وهو أسلوب الآيات الذي جمع بين الجمالية والعلمية حيث الأول مدخل تقبّل اللغة عند المتلقي والثاني مدخل مواكبة العلوم الحديثة، فكان تعيين مجلس أمناء مجْمَع الملك سلمان العالمي للغة العربية غوصًا مجزيًا في عمق المطلب اللغوي وواقعه الآن لكون عالمية اللغة العربية طوعت ألسنة العرب والعجم من المسلمين على اختلاف لهجاتهم ولغاتهم فتآلفتْ ولاسيما في سالف عهودهم، فكانت جلّ مفاخرهم بسمو المنطق وجزالة اللفظ وقوة العارضة، وكان البيان ينثال طوع ألسنتهم؛ وتتزاحم لهم الألفاظ في أسماطها حتى قال شاعرهم:
«وننكر إن شئنا على الناس قولهم
ولا ينكرون القول حين نقولُ»
ولقد أكد القرآن الكريم حضور العربية على خارطة حياة العرب والمسلمين، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ونجزم بعون الله أن دور مجلس الأمناء الموقر سيكون كبيرًا وارفًا وستكون استراتيجيته داعمة من خلال التوافد العلمي والعملي من المشاريع والبرامج التي ستكون بإذن تطويرًا فاعلًا من خلال طرح بعض الموضوعات الحية لكل الحقول والمستويات التي تحيط بالمطلب والهدف, وحتى يسهم الحراك اللغوي في رسم بعض المسارات من التقانة اللغوية بين نقاط الانطلاق والوصول؛ إلى ردم الفقد في إهاب اللغة ورونقها؛ ولابد للمجمع من مراسٍ أخرى لتحفيز حماية العربية، وليس استعراض مآثرها وعلائقها بالمعارف والعلوم التي باتت تدرّس وتدوّن بلغات أخرى في وضح النهار, وعلى خط التماس مع واقع الالتزام السليم باللغة العربية وتمثلّها؛ والغيرة عليها من الخبل في الألسنة، واللوثة في النطق؛ فقد طوقها الخلل اليوم، وأحاط بها خواء الصياغة، وموات العبارة، وقلق التعبير، فهناك علل واضحة كالشمس، وهناك فرز وتأويل، وملاحظات في كل مواقع التدوين، وخطل وترهل في تحرير الفوائد العلمية للمتلقين من الناشئة على مقاعد التحصيل العلمي؛ حين توارت المقروئية السليمة في جل المقررات التدريسية عندما توارت الخارطة التنظيمية الضابطة لمكونات اللغة والفواصل المحددة لها، فلم يعد نشازًا أن لا يؤذي أكثرنا اللحنُ النحويُّ والخطأُ الإملائيُّ حتى أصبحت القاعدة والدقة هي الاستثناء فقد غاب زمنٌ كان يُعد فيه اللحن مخالفة توجب العقوبة فحين كتب أبو موسى الأشعري كتابًا إلى عمر بن الخطاب، فلحن فيه فرد عليه عمر «قنّع كاتبك سوطًا» كما كان اللحن يُعدّ خللًا مقترنًا بالخسارة في حكاية الأعرابي «عجبت لهم يلحنون ويربحون».
فهناك آمالٌ كبرى من مجلس الأمناء الموقر أن تُستثمر الجهود في تعصير اللغة، لكون ذاك بناءً لمستقبل الأجيال فالشعوب بلغاتها؛ فيتوجه مجمع الملك سلمان العالمي لدعوة علماء اللغة وأساطينها لتبني مشاريع علمية من أجل إلحاق اللغة العربية بركب حياة الأجيال اليوم، وأجزم أن الحاجة ملزمة اليوم إلى صياغة مفهوم جديد للمواد التعليمية من خلال لجان متخصصة تهتم بالنص التعليمي، وتعزز مكانته ووظيفته في الذهن والذائقة لدعم النشء في دور العلم بمواد قرائية نافذة، وتحويل المنتج القرائي إلى برمجيات إلكترونية؛ تناسب واقع العصر، وبها تتحقق صناعة طوق النجاة للمكتبات في المدارس؛ ولي في التكنولوجيا القرائية وقفة؛ فأنا لست مع قرطسة الواقع ثم الحكم عليه؛ فالمعجم المتوفر تقنيًّا أمام الأطفال في واقع اليوم على سبيل المثال يحيطه قدر كبير من الانغلاق، وصعوبة الفهم للمعنى والدلالة، كما تشوبه ركاكة في التركيب، وتبديل وإنزال بعض الألفاظ في غير مواضعها، وقد يتفاجأ الطفل بتوليد بعض المفردات تعسفًا للإتمام فحسب، فلا بدّ من مراجعة وتمحيص الكتب المدرسية.
كما أنه لا يمكن للمتعلمين خاصة في مراحل التأسيس أن يتآلفوا مع الدلالات الثقافية الحديثة، إلا إذا كانت بيئتهم التقنية وافرة ومحفزة، فكما نعلم أن الواقع جعل لمفردات الثقافة في تكنولوجيا المعلومات مسمياتٍ حديثة، فآثرها كصناعة، ثم إن اللسان العربي قائم على صوت الحرف وتحكمهُ قواعد اللغة، وبساط أولئك المتعلمين أرض قاحلة في واقعهم؛ فالقواعد في لغة التقنية تنتج ثم تستخدم، أما قواعد النحو فتستخدم ثم تستخلص منها القاعدة، والأخيرة أوضح عند النشء الذين يسمعون العربية منذ ولادتهم من أفواه المحيطين، وإن:
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى
لعاب الأفاعي في مسيل فُرات
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة
مشكلة الألوان مختلفات
وإن حددنا القول في المقررات التدريسية للغة العربية (لغتي؛ لغتنا الخالدة) المنفذة في التعليم العام، فلا يمكن اتساقها مع أهداف تأصيل اللغة العربية إلا إذا ظهرت الكلمات مشابهة للأشياء؛ حيث يقرنُها فكر المتعلم في تلك المراحل عندما تكون علامات مرئية تشير إلى كلمات، أو تحيط بواقع ممارس؛ لأن واقع المقررات الحديثة واقعٌ يخلو من الشبه البيئي والمجتمعي، ومن الخيال النامي المؤصل للقراءة الناقدة الإبداعية؛ وحتى تتحوّل تلك المقررات إلى بيوت أكثر اتساعًا بدلًا من ضيق الأفق وبُعد المشاهدة التي تغلفها إلا من نزر يسير من المقتطفات فلابدّ من حزم ذلك الرأي المتواضع وإحاطته بالعنق.
وقضية أخرى في المقررات التدريسية المترجمة حيث تربّعت بعد دخولها المُبهج في مجالنا التربوي، ولكن مرق خلالها شيء مما داخل اللغة، فعصرها وبرزت المقروئية الضعيفة في متنها، والمختلة في سياقها وكان حريًّا أن تستعين الجهات المنتجة بصديق متخصص يسمع ويرى.
وختامًا، فإن عشق اللغة العربية يحيطنا بوهجه؛ ونترقب معها القادم الجميل الذي يحمل القرار الأبدي بأن اللغة صوت هويتنا وكتابها المبين، وأن في الحدب عليها قوة واسترداد ملامح مُثلى وسط الهويات المصنوعة، كما أن كل ذلك يجعلنا نتذكر أن التاريخ علّمنا أنّ الحضارات هي من تعكس بريقها على محيط أصحابها وألسنتهم، وصواب نطقهم، وعلّمنا أيضًا أن العربية وما تصوغه من فرائد هي من عكست بريقها على حضارتنا، وتلك معجزة لغة الضاد التي هيأت لكتاب الله أن تدرك معانيه ومراميه وبلاغته.