غالية محمد عقاب المطيري
الجزء الثاني
هكذا هي الحياة تعبث بالإنسان وتذيقه ما تذيقه من الآلام وصنوف الشقاء وينقلب حاله ما بين عشية وضحاها فبعد أن كان يرتشف كأس سعادتها يصبح يتجرع غصص أحزانها، وهذا ما حصل مع طلال الذي اقتاده رجل الأمن وهو يُهَمْهِمَ بصوت مسموع ويقول إنها تستحق القتل لتنتقل هذه الكلمة بين الحضور وتصل مسامع ذلك الأب الحزين، ليُصيب سهمها كبده، فكاد أن يسقط لولا تلكما اليدان القويتان اللتان أمسكتا به لتتلاقى النظرات ويكون هذا الحديث الصامت بينهما
أبو نورة: يا أخي لا تصدق تلك التهم لعل في الأمر شيئاً لا نعلمه.
أبو طلال: لا يا أخي إن ما فعله طلال أمر لا يمكن أن ينسى أو أن يصفح عنه.
وحديث العيون لا يكون إلا بين القلوب الصادقة. لذلك لم يكد ينتهي ذلك الحديث الصامت إلا وقد عانقا بعضهما البعض في مشهد مهيب.
ووقفا كالجبلين الشامخين ليقطع ذلك الشموخ والوفاء تلك الألسنة وتكون هي الرد الرادع على تلك الأقاويل والإشاعات.
فيسود المكان شيئٌ من الرهبة والإجلال لتلك الأخوة التي لم تقطع أواصرها تلك الأحداث.
مضى الأخوان إلى مركز الأمن كل منهما ممسك بيد الآخر ليتعرفا على حيثيات تلك الحادثة.
وفي غرفة التحقيق جلس طلال شاحب الوجه تشي قسماته عن حالة غريبة يمر بها ذلك الشاب الذي كان بالأمس تشع الحياة والسعادة من كل خلاياه واليوم استحالت حالته فغاض ماء الحياة من وجهه وانطفأت السعادة من ملامحه.
أخذ المحقق بطرح الأسئلة عليه
كيف خططت لهذه الجريمة البشعة
- إنها تستحق القتل
- لماذا؟
- لأنها ....لا أعلم فقط هي تستحق
- حسناً إنها تستحق ولكن كيف خططت, وماذا كانت خطتك؟
- لقد دعوتها للعشاء وكانت خطتي أن آخذها إلى ذلك المنحدر وأن أُعطل مكابح السيارة بعد أن أقوم بتقييدها في المقعد حتى لا تتمكن من القفز كما فعلت أنا, هل لك أن تتخيل كيف قيدتها؟ أنا قيدت نورة نعم أنا ...أنا
كانت تحاول أن تهرب مني ولكني قيدتُها وضربتها و... ثم صمت وأغمض عينيه ولم يتكلم وعاد إلى ذهوله الصامت.
استغرب المحقق من حالته تلك وكأنه محمومٌ يلتهب التهاباً فيهذي بكلام ٍ مبهم.
جلس المحقق ناحية يكتب تقريره الذي يطلب به عرضه على أطباء متخصصين في مجال الصحة النفسية، وفي أثناء ذلك دخل الأبوان الكسيران فأخبرهم المحقق باعتراف طلال وخطته المرعبة تلك مما زاد حيرة وألم الأبوين.
طلب أبو نوره زيارة طلال لبعض دقائق فقط
وافق المحقق على مضض
لم يستطع أبو نوره أن يمنع دموعه من الانهمار وهو يشاهد طلال يجلس في زاوية غرفة السجن الباردة وقد أكبَّ بوجهه على ذراعيه وقد أخذ وضعية القرفصاء في جلسته تلك ناداه هو يستجمع شجاعته.
طلال يا ابني
ليرفع طلال رأسه ولبث شاخص البصر برهة لا ينطق ولايطرف
اقترب أبو نورة منه وقال:
هل حقا أنت قتلت نورة؟
استفهام كان كل أمله أن يكون جوابه لا.
كان يتمنى أن يسمع هذا النفي ليخرج للناس صارخاً إنه لم يقتلها.
أنَّى له بقلب يذبح جسداً أحبه وذاب في عشقه.
وهكذا هي النفس الحزينة في لحظات الصدمة تحاول الإنكار لعلها تجد في ذلك الإنكار وعدم التصديق بعضاً من الطمأنينة والسكون.
فهي كبَحّارٍ فجاءته عاصفة شديدة في ظلمة الليل وبرودة الشتاء فأخذت أمواج البحر الغاضب بضربه يَمْنةً ويَسْرَةً حتى اختل توازنه فسقط في ظلمة البحر ذاك ليجتمع عليه مثلث الهلاك
موج بحر
وظلمة ليل
وبرد شتاء
وهو يضرب بذراعيه العاريتين تلك الظلمات
ومن بين فَيْنَةِ واُخْرَى تلوح له نسمات الهواء مع برودتها إلا أنها تسعده.
وهذه كانت حالة ابو نورة وهو ينتظر إجابة طلال
الذي قال : نعم لقد قتلتها لأنها تستحق القتل.
حاول أبو نورة أن يتمالك نفسه ويسأله لماذا استحقت ذلك؟ ولكن صفعة هوت على وجه طلال سقط على إثرها مكانه.
كان أبو طلال قد دخل خلف أبو نورة ليستمع إلى حديثه مع طلال وآثر الصمت ولكن عندما قال طلال تلك الكلمة التي ستجعل القاصي والداني يتحدث بعرض أخيه ابو نورة وابنته لم يتمالك نفسه وصفع ابنه تلك الصفعة التي جعلت طلال يعود لحالته الأولى ويفيق من ذهوله ويصرخ أين أنا أين نورة ماذا حدث؟
ثم أخذ يئن أنين الثكلى هائماً في غرفة السجن يذرع أرضها ويمسح جدرانها عله يجد بقايا لنورة
ولا يجيب أنينه إلا بكاء أبويه الجاثيين على أرض الزنزانة.
تناقل الناس تلك الحادثة لتكون هي العنوان الأبرز في جميع مواقع التواصل رجل يقتل زوجته وبدأت الأقاويل منهم من قذف الزوجة بأبشع النعوت والتهم بل البعض حَبَكَ قصة من مخيلته ونشرها كأنها الحقيقة بحد ذاتها.
وفريق آخر جعل نفسه محامياً عن الزوجة المقتولة وما كان هدفه من ذلك الدفاع عنها إلا أن يجعل هذه الحادثة متنفساً لعقده وليبث شذوذ أفكاره وكرهه الأعمى لمجتمعه.
بل البعض وظف تلك الحادثة سياسياً وقذف وطنه وجميع قياداته بكل ناقصة وتهمة.
وهناك فريق رابع جشع انتهازي.
بدأت خيالات أكاذيبه تخرج فادعى قربه من الزوجة أو الزوج وأخذ بإجراء اللقاءات وكل ذلك بهدف كسب المال وهذا الجشع لم يظهر على الأفراد فحسب بل وصل إلى قنوات إعلامية يفترض بها النزاهة والحيادية ولكنها أبت إلا أن تركب تلك الموجة المربحة وتحقق أعلى الأرباح والمبيعات.
ألا تجدون أن أكثر الكتب مبيعاً؟
هي تلك التي تتحدث عن الفضائح والخلافات بين الأسر بل إن أكثر المقاطع انتشاراً أيضاً هي من هذا النوع وأصبح من يريد الشهرة عليه أن يتحدث أو يكتب عن الشاذ والغريب بل والخطأ.
ولو علم كل هؤلاء أنهم أساؤوا لأنفسهم أيما إساءة لانهم لو كان لديهم قليل من إنسانية أو محبة أو صدق
أو لنقول جزءاً بسيطاً من فطرة سوية لاحترموا حزن تلك الأسرة ومصيبتها وشاركوهم بالصمت فالصمت أحياناً أعظم مواساة من الكلام.
إن هذا الزلزال الذي دمر تلك الأسرة السعيدة قد يدمرهم ذات يوم لأن الزلزال لا يوجد في حساباته متانة بناء الأسرة أو سعادتها أو حتى كتمانها.
ولكن قد يضربك ذات يوم وبكل قوة وأنت لا تشعر عندها لن ينفعك حيطتك أو حذرك لن ينفعك إلا تلك الملايين من البشر الصادقة التي ستقف في وجه كل إشاعة واتهام كالسد المنيع.
لذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عندما كانت حادثة الإفك لم يواسني مثل امْرَأَةٌ من الانْصَارِ اسْتَأْذَنَتِ، فأذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي.
وهذا الشعور والنبل فعله طلحة مع كعب بن مالك رضي الله عنهما بعد أن تاب الله عنه بعد تخلفه عن غزوة تبوك ركض نحوه واحتضنه.
ذلك الحضن هو كل ما كان يحتاجه كعب بن مالك ومشاركة الألم والبكاء هو كل ما كانت تحتاجه أم المؤمنين رضي الله عنهم جميعاً، وهكذا يكون فعل الإنسان الراقي في وقت زلزال الآخرين.
إن نبل الإنسان هو ما سيعود عليه، فلنتعلم أن نكون نبلاء في تلك اللحظات.
أما هذان الأبوان فقد علما أن ذلك الزلزال الذي ضرب أركان أسرهم هو مرض خطير غفل عنه الجميع هو مرض الانفصام لأن المريض عندما يتناول نوعاً من العقاقير في فترة العلاج يتطلب أن يبقى تحت إشراف أطباء متخصصين ولكن نورة وطلال لم يفعلا بنصيحة الأطباء.
كما يفعل الكثير يرون في الاعتراف بإصابتهم بمرض نفسي هو أمر مستهجن بينما تناسوا أنهم يقضون على أحبتهم عندما لا يعترفون بالأمراض النفسية ولا يسعون لعلاجها كما يسعون لعلاج الأمراض الجسدية.
لقد قتل طلال نورة لأنه مريض انفصام.
والانفصام وغيره من الأمراض النفسية خطر أخذ يزلزل حياة الكثير من الأسر والشباب والشابات لذلك على الجميع أن ينتبهوا ويعدوا العدة لذلك الزلزال الحقيقي.