د.حسن مشهور
تلعب العتبة النصية دوراً مهماً في تسليط الضوء على زوايا جانبية ومنحنيات تسهم في تكثيف الفهم النوعي للسيرة الذاتية، إلى جانب تزويدها المتلقي بدلالات إضافية تعزّز المكون التعبيري للسيرة الذاتية. وقبل الولوج لتأطير الدلالات الثانوية للنص الهدف؛ فإنه من الضروري أن نعمد لتحديد ماهية العتبة النصية وما هي أنواعياتها.
وتشير مفردة العتبة في اللغة للمكان الذي يشرف على الشيء، أو هو تلك المكانية التي يرقى إليه من خلالها، «وهو معنى محوري لمعانٍ معجمية كثيرة تحوم حول الأبواب والمداخل والدرج والمراقي والمصاعد والمشارف». وفي الاصطلاح فإن العتبة تحقق وجوديتها من خلال «علاقة مكونات الفضاء التداولي للنص مع النص في قيامها على الإيماء، والإيحاء، والإحالة والتمكين من مواجهة النص، بقدر ما هي جزء من النص، فلا نص بدون عتبات، ولا العكس».
وعتبات النص حقيقة تعد من تلك المصطلحات النقدية التي نالت حظها من النقاش والتداول ومحاولة الفهم والتأويل والتفسير. فقد شكت حالة من التضارب في التعريف والتفسير في الدرس النقدي، وهي سمة تولدها في الواقع تلك الترجمات التي تقوم على نقل مكون بنيوي ثقافي لثقافة أخرى تختلف مع الأولى بشكل أقرب للاختلاف الجذري.
إذ قد اثأر مصطلح جيرارد جينت هذا وأعني «Le paratexte»، الكثير من التضارب والاختلاف في تحديد دلالته بين من يرى بأنه يعني الموازيات النصية، أوالعتبات، أوالمناصات أوالمناصصات أيضًا. بيد أن القول بأنه يراد به «العتبات» أو «النص الموازي» ؛ قد غدا التوصيف الأكثر حضورا في الدرس النقدي. وهذان التعبيران يستخدمان في العادة مترادفان، بغض النظر عن أي منهما هو المصطلح الأولي والرئيس، ويراد بهما التعبير عن ذات الظاهرة العتباتية. وهذا المر هو ما أدى لذلك الفهم المتعلق بلا محدودية النص.إذ لم يعد النص مجرد تلك الكلمات المخطوطة أو المطبوعة التي يتكون منها الأثر الأدبي، ولا هو يمثل كذلك مجرد متوالية من مجموعة علامات بين حدين. ولكنه يمثل أبعد من ذلك، فهو جملة من التكوينات والروافد التي تنصهر بالكلية والجمعية لتعلن عن ولادة النص الكامل. فالعنوان وكذلك المقدمة والتقديم وأيضاً الخاتمة وفوق كل ذلك الإهداء، مجمل ذلك هو النص في وجوديته الحقيقية. أي أن العتبات هي جزء من النص والنص لا يكون نصا كاملا إن هو جرد من عتباته.
وإن كنا نجد في ذات الوقت بعض الدراسات النقدية التي تميل للقول بأن علينا تطبيق حالة من الفصل بين ما يصاحب النص - داخل دفة الكتاب - ويجعل منه عملا ؛ ويراد بذلك « العتبات «، وبين ما يقع خارج دفتي الكتاب وينشر في الصحف والمجلات الثقافية والإعلانات ووسائل الإعلام والعرض، مما يمكن توصيفه بكونه يمثل « نصوص موازية «.
ولقد تولدت حقيقة من محاولة تعريف وتأطير مصطلح العتبة ؛ مئات من التعريفات الأخرى، الأمر الذي أدى لتوسع الخطاب العتباتي وإلى تشعبه ومن ثم تنوع مساراته الداخلية وتعدد جوانبه. كما أن كون الظاهرة العتباتية هي ظاهرة نصية وتناصية ؛ فقد كان لزاما أن يربط تحديد ماهية العتبة بتحديد ماهية النص أولا، وهو كما أسلفت قد قادنا لذلك الكم الهائل من التعريفات والتوصيفات التي تعنى بالنص من زوايا نظر وروافد ظاهراتية وبنيوية كذلك وتفكيكية وسيميائية وسوسيولوجية ودينية وتراثية أيضًا.
وتمثل المبادئ العتباتية جملة من الخصائص الوظيفية والمادية والبراجماتية لكل عنصر عتباتي على حدة، باعتبارها تشكل مجالا رحباً للتساؤلات النقدية التي تسعى لتحديد خصائص العتبة النصية بكل موضوعية وتكامل. كما أن كل عتبة نصية سواء في ذاتها أو في علاقتها بالنص ؛ تتوفر على جملة من القيم والخصائص مكانية وزمانية وتداولية وكيفية ووظيفية ، في موازاة الأسئلة التالية : أين؟، متى؟، كيف؟، ولماذا؟، ممن وإلى من. وجدير بنا أن نعي بأنه وفق متغيرات وكذلك ثوابت هذه المبادئ ؛ فإن طبيعة وملامح كل عتبة تتحدد على حدة. وكذلك تتوزع العتبات إلى أنماط وفئات ومستويات، وهي مما يعد نتيجة تمهيدية للمسئلة العتباتية التي تعنى بالإجابة عن سؤال الشعرية باعتبارها ذات خصوصية فنية وزمنية وثقافية كذلك.
هذا ويمكن لنا كدارسين لدور العتبات في البنية السردية أو الشعرية أن نحصر هذه المبادئ في العناصر التالية :
-المبدأ المكاني: ويراد به ذلك التموضع المكاني الذي تتخذه العتبة في خارطة العمل. وكذلك موقعها بالنسبة للنص وللعتبات النصية الأخرى. وهو مما يتحدد وفق إستراتيجية بعينها تتسم تعنى بعلاقة العتبة بالنص، بالإضافة لوجهة حركة التلقي المفترضة بينهما. وفق هذا المبدأ يمكننا بالتالي ؛ أن نعمل على توزيع العتبات للواحق وسوابق وهوامش أيضا. مع الأخذ بعين الاعتبار أن بعض الأسماء العربية لبعض هذه العتبات في اشتقاقها هي بالأصل مستمدة من كينونتها وبنيتها المكانية من النص، من ذلك على سبيل المثال المقدمة والتصدير والتمهيد باعتبارها سوابق وأيضاً الخاتمة من منطلق كونها تمثل اللواحق.
وجدير بالذكر أن أشير هنا إلى أن مجمل العناصر العتباتية المتمركزة مكانيا ضمن الكتاب، تشكل بذاتها فئة عتباتية مستقلة، كان جيراد جينت قد اسماها بـ « النص المحيط « ؛ وهو ما يقابله كذلك « النص الفوقي « ؛ الذي يراد به وفقا لمقاربة جينيت تلك الخطابات العتباتية المرتبطة بالنص والكائنة في ذات الوقت خارج دفة الكتاب. من ذلك المسودات والإعلانات والتصريحات الصحفية والمقابلات. لكن جينيت في خضم مسعاه لتحقيق وجوبية الحضور النصي للعتبات الشعرية، لاينسى أن يشير كذلك إلى أن جودية النص الفوقي لا يجعل منه حتمية لا يقرأ النص بمعزل عنها. فهو - أي جينيت - يرى بأن أكثر القراء يستطيعون تجاهلها بسهولة دون أن يكون لها ذلك التأثير الحاسم في قراءتهم للنص.
كما أن التعاليات النصية لشعرية جيراد جينيت تقتضي تمحيص وفحص المقولات واعتبارات التوزيع، في السعي لإعمال حرية البحث والباحث في رفض أو تقبل أو حتى تعديل معطياتها التي على الدوام قد دأب جينيت بذاته على مراجعتها. كما أن جينيت قد أكد في كتابه الذي أصدره لاحقا وحمل عنوان «طروس» ؛ كان قد أكد فيه على أن العلاقة التناصية لما اسماه « الملحق النصي «، إنما هي تجري في الواقع في حيز الكل الذي يشكله العمل الأدبي. وهذا الكل يراد به كل ما يجعل من النص كتاباً في الواقع. من ذلك اسم المؤلف والعنوان والغلاف والمقدمات والخاتمات والتقاريظ.. باعتبارها فئة عتباتية مستقلة تشكل فضاء النص في إطار الكتاب. وقد عرفت هذه الفئة بـ « المحيط النصي « أو « النص المحيط «، وهو ما حُصِرَ مفهوم العتبات عليه، كتعال نصي له مقوماته ومبادئه التي تؤهله ليكون تعاليا نصيا مستقلاً.
-المبدأ الزماني: نحن ندرك كمشتغلين بالحراك الثقافي في شقه الأدبي ندرك جيدا ؛ بأن النتاجات الإبداعية تحتاج بعد نفاذ طبعتها الأولى لطبعات أخرى ؛ ثانية وثالثة...الخ. كما نعي جيداً بأن هذه الطبعات عند بداية عملية الإعداد لطبعة جديدة من أي عمل فني فإنها تحتمل في الغالب عمليات إضافة ومحو وتحوير وحتى تبديل للعديد من عتبات الطبعة أو الطبعات السابقة.
ومن هنا ووفق هذا الاعتبار فإنه يتشكل لدينا «عتبات أصلية»، تظهر للعلن مع بداية ظهور الطبعة الأولى من أي عمل أدبي أو نتاج ثقافي. في ذات الوقت الذي تتشكل فيه «عتبات لاحقة»، تبرز لنا مع ظهور الطبعات التي تلي الطبعة الأولى. وإذا أخذنا الأمر من منطلق وباعتبار حياة المؤلف فإننا سنجد بان هناك عتبات تظهر في أثناء حياة هذا المؤلف، وأخرى ؛ أي عتبات متأخرة تظهر لنا بعد وفاته. وعلى محك هذا المبدأ الزماني تتجلى الطبيعة الآنية للعتبات، وقابليتها للمحو والاستبدال والاستحداث بين طبعة وأخرى في مقابل الثبات المفترض للمتن، كما تفرز العلاقة الجدلية بين العتبات والنص إشكالاتها، فعلى صعيد آنية العتبات وقابليتها للتحول تنثال التساؤلات الوجيهة والمهمة.
من تلك الأسئلة التي وصفت بكونها تتسم بالأهمية والوجيهة، إمكانية فصل النص عن عتباته، وما معنى شرطية العتبات وتداخلها العضوي بالنص، وإلى أي مدى تؤثر تحولية العتبات على الأبعاد الدلالية والجمالية والتأويلية للنص. والإجابة على مثل هذه التساؤلات تكمن في وعينا بأن النص ليس فقط مجرد بنية لسانية. فهذا الوصف هو مما يسقط على المتن. في حين أن النص يمثل الشكل واللغة والكيف وقبل ذلك هو المادة ذاتها. فهو تجسيد لذلك التلاحم العضوي بين العتبات واللغة.
ومن هنا علينا أن نعي جيداً بأن أي تحول عتباتي، يطرح بدوره تحول نصيا موازياً، حتى ليمكن القول إن هناك مغايرة نصية وراء كل مغايرة عتباتية، وأخيراً فإن ثبات النص « المتن « في مقابل تحولية العتبات يعني إمكانية وجود النص بعتبات أخرى، لا وجود النص بدون عتبات. حقيقةً، إن الدرس النقدي في شقه المتعلق بالعتبة ؛ يخبرنا بأن كينونة العتبات هي في الواقع قائمة على أساس تعلقها بكينونة النص، وهو ما لخصه جيرارد جينت بقوله أن العتبات بكل أشكالها خطاب غير اسمي، مساعد وموجه لخدمة أشياء أخرى، تشكل وعي كينونته، وهو النص.
-المبدأ التداولي: وهو مبدأ في واقعه يعمل على تحديد أركان العملية التواصلية للعتبة الشعرية، وبالتالي النص الشعري، وتحديد أهدافها وطبيعتها، وكذلك طبيعة العلاقات بين محافل العملية الشعرية، وكفاءتها، وإشكالاتها بوصفها تعد جزءاً من الإستراتيجية التواصلية وكذلك الفنية والإبداعية للشعرية المعاصرة. هذا ويمكن إجمال تلك الأركان التواصلية العتباتية في التالي:
المرسل : وهو في واقعه يعد المسؤول عن إرسال العتبة، كما أنه يترتب عن تحديده الكشف عن هدف الرسالة العتباتية وعن نوعيتها. ووفقا لمرسل العتبة هذا فإن العتبات النصية تتوزع إلى عدة أنماط من أبرزها؛ العتبات الذاتية وهي تلك العتبات التي يقوم المؤلف بوضعها. من ذلك الإهداء والعنوان والعناوين الفرعية وكذلك المقدمة. ولكون المؤلف هو مرسلها فإن ذلك مما يحعل تمثل قدراً عاليا من التعبير وتمثيل لرؤيته الشعرية وكذلك قضايا النص وحيثياته. والعتبات الغيرية وهي تلك العتبات التي تقع مسؤوليتها بالأساس على الناشر. من ذلك الجوانب الفنية والمادية للإصدار الأدبي، وحجم وبيانات النشر وكلمة الناشر. هذا وتعد هذه العتبات بالأساس ذات صبغة اقتصادية تهدف بالأساس للترويج للعمل الفني ولحماية الحقوق المادية والأدبية لكل من الناشر والمؤلف. والعتبات التفويضية، وهي تلك العتبات التي تقع مسئوليتها على أطراف أخرى لهم علاقتهم كذلك بالعمل الفني. كتصميم الإصدار الأدبي وعملية إخراجه واختيار أو تشكيل لوحة الغلاف كذلك وكتابة بعض المقدمات والخاتمات النقدية والهوامش. ويتم عملهم هذا من خلال حصولهم على تفويض من المؤلف أو الناشر أو المترجم أو المحقق كذلك.
المتلقي : وهو المرسل إليه في الغالب ويعتبر محور العملية النصية ومن يعد كذلك المحك الذي تختبر عليه الطبيعة الأدبية للنص وكذلك وظائف الرسالة النصية والعتباتية، إذ يعد إدراك المتلقي للأشياء برهانا رئيسيا على وجودها وفعاليتها. كما أن نمط المتلقي في هذا المقام يكشف لنا عن سيادة القراءة في تلقي الشعر المعاصر. وعلى الرغم من كونه أمر مفترض أن يتوجه النص إلى جمهور افتراضي قد يشمل عموم القراء. إلا أن الواقع يقول بان هناك جمهور فعلي لكل عتبة ونص وهو مما يتحدد وفق عوامل متباينة منها تلك المتعلقة باللغة ومنها أيضاً العوامل الثقافية والاقتصادية. كما أنه من المهم أن نلاحظ بأن الشريحة المستهدفة من النص قد تختلف عن الشريحة المستهدفة من العتبة. في حين أن العتبة أحيانا قد تتوجه لأكثر من شريحة. ومن هنا نستطيع أن نوزع الشرائح المستهدفة من هذه العتبات وفق التالي، العتبات العامة وهي تنطلق في توجهها لتشمل الجمهور العام ؛ سعيا لتحقيق العدد الأكبر من فئة القراء والمشترين والهواة بشرائحهم التي تقاس من الناحية العملية بشريحتين اثنتين تتميزان بالتداخل واللا تطابق؛ وهما شريحة المشترين وكذلك شريحة القراء. والعتبات الخاصة وفي هذه النمطية من العتبات ؛ نجد تحقق تلك الاحتمالية المتعلقة بكون العتبة قد لا تتوجه بالأساس - في بعض الأحيان - إلى القراء على عمومهم، بل عوضا عن ذلك فان توجهها في هذه الحالة قد يكون إلى فئات بعينها معنية هي بالشأن الأدبي، وتشمل النخب الفكرية، إلى جانب تجار الكتب. هذا إلى جانب العتبات حميمية وهي في الواقع جملة من العتبات التي تتسم بالطابع الشخصي وتكون موجهة من قبل المؤلف لأفراد لهم أهمية بعينها لدى المؤلف أو ممن يرتبطون به بصلاة قرابة أو بعلاقة مباشرة مع حياته الشخصية.
المبدأ الوظيفي: ويعد المبدأ الوظيفي متحققا من خلال السؤال الوظيفي، الذي هو في الحقيقة يمثل سؤال عن « الضرورة « و « الأهمية « و « الجدوى «. وهو في واقعه يجسد السؤال الأكثر التصاقا بالقيمة العملية والواقع التجريبي للمصاحبات العتباتية. بالإضافة لعملية اختبار الكفاءة العتباتية التي تتفاوت وظيفياً من عتبة لعتبة أخرى، وكذلك في حالتي الحضور والغياب، حيث العتبة إجراء يستند على رؤية وحضور، في حين إن محو العتبة قرار يتكئ على خلفية فلسفية، وتخطيط وظيفي منهجي متكامل.
المبدأ الكيفي: و يتجسد في واقعه عبر الكيفية الشكلية للعتبة النصية، بوصفها تعد - في الواقع - جزء من الماهية المشكلة لها. وعلى ضوء ذلك تنقسم العناصر العتباتية إلى عتبات لغوية، عتبات مادية، عتبات فعلية، عتبات أيقونية.