د. شاهر النهاري
نسبة كبيرة مخيفة منا ودون أن يدركوا هم أعضاء فاعلون في مجتمعات التنمر، سواء كانوا أطفالا أو مراهقين، أو أزواج أو موظفين أو متقاعدين.
والتنمر شأن يختلف عن التعدي، ذلك الشجار الوقتي، والذي ينتهي باعتذار أو تصالح أو حتى بقطيعة كاملة، بينما يظل التنمر إساءات تطول وتتشكل، وتصبح عادة تربص وتنفيس.
المتنمر حالة تقمص لطباع نمر جائع متوحش، يبدع بانتهاز لحظة إذلال وتشفي هجوم سطوة ضارية على خصمه، أيا كان خصمه، وطالما أنه يجده ضعيفا، لا يتمكن من الرد على إساءاته.
وحياة المتنمر بحث عن شيء يفتقده وأشياء يتطلع لفعلها للخروج من خيبات غضبه ونقصه وضيقه، فيجرب على من حوله التعنيف، ومناوشات قد تكون مجرد نظرات سطوة، أو ضحك وكلمات ازدراء، أو العنف الجسدي، أو بلوغ التحرش الجنسي، ومعاودة الفتك بالضحية الضعيفة المستسلمة عند كل فرصة سانحة.
حالات نفسية يدخلها المتنمر المستقوي، بمشاعر غضب مكتومة، ومحاولات إقناع نفسه، والآخرين بأنه القادر القوي، وأنه المهم والأهم، ومن لا يتوانى عن أفعاله بأي أخلاق أو روادع منطقية، أو شعور بالذنب، وأنه هو من يجب على الآخرين احترامه وطاعته، اتقاء لشروره.
المتنمر حالة نفسية، يعاني خلالها من وحدة وانعدام تعاطف وإهمال في بيته، واهتزاز وضعف، وقد يكون هو بذاته ضحية عنف لفظي أو جسدي أو جنسي فيعمد إلى قلب الصور للخروج من أوضاعه الصعبة بمفاهيم أن «الشر يعم»، و «علي وعلى أعدائي» و»الميت الله يزيده موت».
من يناله التنمر في المقابل شخصية مهتزة قليلة الخبرة والجراءة، تخشى المواجهة، وتشعر بالضعف الشديد، والعجز عن رد الأذية، أو حتى عن الشكوى، فيخنع صامتا، منزويا، مطأطئ الرأس، مكسور العين، لا يمتلك القدرة على النطق الواضح، أو الإقناع، ولا على خلق الصداقات، وبالتالي فهو يواجه المتنمر بمجرد أمنيات بالخلاص، بأقل الخسائر.
من يحضرون عمليات التنمر، ويمررونها بالصمت، ومن يشجعون المتنمر، سواء بالضحك على ما يحدثه فيها، أو بالمشاركة في الأذية ولو بكلمة، وحتى من يقفون عاجزين ويقررون بأن ذلك ليس شغلهم ولا همهم، ومن يهربون، كلهم شخصيات مشاركة يتباين ضعفها، حين لا يتمكنون من قول كلمة الحق، ولا يقفون أمام الظالم ولو بالصوت، ولا يدلون بآرائهم، ولا يُبَلِغُون جهة مسؤولة، ولو كان عذرهم الخوف من أن ينالهم من التنمر جزءا هم في غنى عنه، كلهم شخوص ضعاف بنفسيات ناقصة يكملون أجزاء منظومة وهيكلية التنمر.
من يشجعون الشخص المتنمر، ويصبحون في صفه، هم أيضا يمتلكون نفس مشاعر الخلل النفسي، الذي يعاني منه المتنمر، ولكنهم لا يمتلكون القوة النفسية أو الجسدية بمفردهم، فيسعدون بأنه بطل يحقق طموحاتهم، ويقودهم، وينفذ ما يعجزون عن القيام به، فينخرطون جنودا في كتيبته.
المسؤول، الذي يتم رفع شكوى حالات التنمر إليه، سواء كان أحد الوالدين، أو معلما، أو مدير مدرسة، أو رئيس عمل، أو أحد عناصر منظومات الشرطة، إن لم يهتم بالشكوى ويستشعر الخطورة، وإن لم يقم بالتدخل الإيجابي وإصلاح الأوضاع، ومعاقبة المتنمر، ورفع معنويات المتنمر عليه، وإعادة المجتمع للصورة المعتدلة، وأيا كانت أعذاره، فهو أيضا يعد ضلعا مختلا فاعلا في معادلة تنمية ثقافة التنمر، إما بعدم اكتراث، أو بفرض طريقة التعلم والتربية القديمة، حين يعطي الفرصة للضعيف ليتعلم بذاته، أو بالاستهانة بقيمة الحدث والضحك على نتائجه، كلها أمور تزيد من تعداد مجتمعات المتورطين في توطين التنمر، وبما يزيده من قناعات في المجتمع أن ذلك أمرا طبيعي.
منظومة مترابطة من المشاركين، متنمر، ومتنمر عليه، ومشاهد صامت، ومشارك أو مؤيد، ومن يجحد تأثيرات الحدث، كلهم أعضاء في مجتمع يفتقد العقلانية والروح الإنسانية والبحث عن السلام والنفسية السليمة، وكلهم ومن مختلف مواقعهم يعطون الفرصة والأحقية للمتنمر بأن يزداد غيا وشرورا دون خشية ردع أو عقاب، ولمن يتنمر عليه بأن يستكين ويخفض رأسه، وينزوي، وأن يقزم تطلعاته، ويتنازل عن حقه في العيش بكرامة وحرية، ما يخلق مجتمعات من العنف والغضب الدفين، ومن انعدام التعاطف مع المجني عليه، ومن علاقات صلدة سطحية، ومن عدم رعاية معاني السلام النفسي، والحرية، والتحرك في حدود الجفوة، والعنف، والإعجاب بأي تعنيف، وأي إجرام، وأي إرهاب وترهيب.
المسؤولية هنا شخصية أخلاقية، وأسرية، ومجتمعية، وتعليمية، وثقافية، ورسمية في مناطق تلقي الشكاوي، وفي مواقع العمل، وهي مسؤولية تقع على الكل، وأخلاق العدالة الإنسانية والحقوق، لا يجب أن تسمح بأن يعيث المتنمر رعبا بمشاعر من يخشونه، وأن يجرح قلوب وعيون من يعيشون بجانبه، لمجرد أنه عنيف قوي مستبد، وأنه لا يريد أن يعترف بمرضه ولا يطلب المساعدة والشفاء بالوقوف أمام حكيم أو صديق أو فرد مهتم من أسرته لأخذ النصيحة، أو مشورة مختص اجتماعي أو نفسي ليفهم حالته، ويعلمه أن الخلل يكمن في داخله، و أنه لا بد أن يرفض الشر والتجني والعنف، سواء كان له أو عليه، أو كان يقع أمامه وعلى أي كبد رطبة.
وفي المنازل نسمع عن أبطال تنمر، فالزوج المتنمر يرعب زوجته وأبنائها، وفي حالات أخرى تكون الزوجة الواثقة المنفلتة هي المتنمرة، وقد يأتي التنمر بين الإخوة والأخوات، أو يستدير على الأبوين الكبار، ومع عدم وجود وتكامل روح الأسرة المحبة المتفاهمة المتعاطفة المتكاتفة المضحية لعموم أفرادها، وقد يستمر التنمر، حتى يخلق أشكالا معقدة محطمة من العلاقات الأسرية، تستمر حتى بعد أن يغادر الأبناء منزل الأسرة.
وفي مناطق العمل دوما يظهر المتنمرين، وهم مدراء أو مسؤولين، يتحركون حسب غرورهم ومشاعرهم الخاصة، فيميزون بين الموظفين، وحسب أشكالهم أو طبقات المجتمع ومناطقيته، أو عنصرية اللون، أو الجنس، فيكون تنمره بشكل تهميش وإبعاد وتقليل من الأهمية، وإخماد الصوت، وعدم سماع الرأي، وتصرفات تمييز قد لا تظهر الشر جليا، ولكنه يتعاظم بظلمها، ويصب في خانة الإزاحة لمن لا يريد، وتقريب من يرغب في تزكيته وعلوه وتمكنه وتمكينه، وبصرف النظر عن المقدرات والكفاءات والاستحقاق، ما يجعل القياس والتقدير وبلوغ المراتب والمكافئات ومختلف المميزات لعبة بين يديه يتلاعب بها، ويكافئ بها غير المستحقين، ويبعد من يمتلكون العلم والإتقان والمعرفة والعدالة، ويضيق ممن لا يراؤون ولا ينافقون، ولا يخضعون لكلماته وأفعاله، التي قد تبلغ التحرش، فيبعدهم عن الواجهة، لتكون كلمته دوما مسموعة مهما رفع من مكانة المتهافت، ومهما حط من قيمة المخلص القوي الأمين المتمكن الواثق بكرامته وذاته.
والمشكلة هنا تحدث بكل تراكبية، فيكون ما يدار عمليا بالباطن مختلف عما يظهر على السطح، حينما لا يعود المدير المفتري يجد من يقف ضده.
والسؤال: كيف يحدث مثل هذا التمييز المجحف، ويصبح منهجا، وكيف يقوم المسؤولين عنه وحوله بترك يده مطلقة، والبصم له على بياض، يفعل فيها ما يريد، ودون أن يقوم أحدهم بمتابعته، وتنبيهه للقانون الإنساني والحقوقي والمنطقي، ومحاربة تجاوزاته النفسية، التي تدل على وجود الخلل، أو تقديم شكوى في حقه، وخصوصا أن الصامت عن المتنمر، لا يلبث أن يجد نفسه يوما متنمرا عليه.
التربية في المنازل هي الأساس، والعلاقات الأسرية الواضحة العطوفة المتفهمة ضرورة لخلق الأشخاص الطبيعيين، والمتنمر غالبا، شخص شديد الحساسية، ولكنه مهمل من أعز الناس إليه، ولديه مشاعر تمييز وفروق بينه وبين الآخرين، وممن قد يتقصدون ذلك، أو أنهم لا يعرفون بأنهم ولو بالضجر والصراخ يقدمون للمجتمع كارثة بشرية تصيبه بتبلد الحواس والمشاعر، وتجعله يتقمص حياة نمر متوحش، حينما يخرج من قفصه، لا يعود يشبع إلا بإسالة دماء الضعفاء بلسانه ومخالبه ومنقاره.