حامد أحمد الشريف
أطلّ الليل بوجه مشرق هذه المرّة، القمر مكتمل، والنجوم لآلئ تزيّن ثوب السماء الأسود، الحارات فارغة وأصوات الناس تختبئ خلف جدران عتيقة. أمشي بالقرب من مقرّ عملي بين بنايات متداعية في منتصف المدينة وعرير صرصور الليل يؤنس وحدتي، يُثقل كتفيّ جشم يوم عمل شاقّ كنت فيه ضحيّة مؤامرة دنيئة بين أحد زملائي ورئيسي في العمل، أفكّر جدّيًا بتقديم استقالتي. فاجأني جرذ يقف في منتصف شارع ضيّق لا يعبره إنس ولا جان، يقع بين مقرّ عملي وبناية مهجورة. حاولت دكّ رأس الغثيان الذي أطلّ من معدتي، تجاسرت على خوفي ومضيت في طريقي وإذا به ينتصب على قوائمه الخلفيّة وكأنّه يهيّئ نفسه لقتالي. تراجعت خطوة للخلف، بدأت أفكّر في العودة من حيث أتيت موبّخًا نفسي على اقتحام هذا الطريق المهجور. عندما استدرت وجدت صفًّا من الجرذان خلفي، يا إلهي أنا في مأزق حقيقيّ!
قلت لنفسي لا بدّ وأن أكمل الطريق، فمواجهة جرذ واحد خير من مواجهة قبيلة من بني جلدته. استدرت من جديد وإذا بالجرذان تحدّني من كلّ الجهات.. تسمّرت مشدوهًا، أتساءل ما الذي يحدث؟
اختفى صوت صرصور الليل، داهمت السماء غيوم داكنة التهمَت وهجها، أصوات صرير الجرذان تخرق مسامعي، وكأنّها تتحاور بشأني. كنت أستعدّ في تلك اللحظة للفظ آخر أنفاسي، أتخيّل جيوش الجرذان تزحف نحوي، تهاجمني، تنهش ملابسي ثمّ ترديني قتيلاً. بدأت دقّات قلبي بالتسارع، نفَسي يعدو في صدري بينما الجرذان تحوطني، والليل يوغل في السواد، حتّى باغتني صوت قطّ شوارع من خلفي، وثب عليها فظفر بإحداها وفرّ مبتعدًا بغنيمته. عصبت عيوني بذراعيّ بينما تفرّقت الجموع هلعًا حتّى اختفت. تنفّست بعمق ثمّ عدت أدراجي من حيث أتيت غير مصدّق ما حدث.. لقد نجوت بالفعل!
في اليوم التالي توجّهت باستقالتي إلى المدير، كان وجهه للحائط وظهر كرسيه لي، استدار نحوي، فوجئت بجرذ البارحة بحجم المدير يعتلي الكرسي ويطالعني باشمئزاز، وقف شعر جسدي، أبرزت مخالبي، وبدأت بالمواء.
الكاتبة الأردنية صفاء الأحمد
في البداية، لا بدّ من الإشادة بالكتابة الأدبيّة الرائعة التي تجلّت في الصور الجميلة التي اغتنت بها هذه القصّة القصيرة، والمفردات الأصيلة التي أظهرت قدرة الكاتبة على الوصف بطريقة لافتة، وهو ما يعدّ بمثابة الوعاء اللازم في كلّ كتاباتنا الإبداعيّة، نثرًا وشعرًا. قد يغيب عن البعض أهمّيّة هذا الأمر، معتقدًا أنّ الالتزام بأسس كتابة القصّة كافٍ، ويسمح لنا أن نتجاوز الشقّ الأدبي، في حين أن لا قيمة للأدب عمومًا بعيدًا عن الالتزام بالأساليب الكتابيّة الجميلة، وباللغة الأدبيّة الرصينة بكلّ تفريعاتها التي يجب اعتمادها، وإن بالحدّ الأدنى، حفاظًا على قيمة السرد؛ فاللغة هي الإناء الذي يقدَّم لنا فيه الأدب لنتذوّق طعمه، فإن لم يُسكب في وعاء فاخر تفوح منه رائحة زكيّة، لن نشعر بجماله، ونمنحه القيمة التي يستحقّها؛ وأظنّ الكاتبة قد نجحت في ما أرادت أيّما نجاح، وبرهنت لنا، من خلال هذه القصّة الإبداعيّة، على مدى أهمّيّة الكتابة بأسلوب أدبيّ، وما يُقترف في حقّ لغتنا من جرم إن خاض أحدهم السرد دون تمكّنه منها.
بقي أن ندلف إلى عمق النصّ لنتبيّن الفكرة التي ناقشتها القاصّة، وأظنّها تتحدّث فيها عن أزمة يمكن أن نعيشها إذا ما تحلّينا بالأخلاق في وسطٍ يفتقر إليها كلّيًّا، ونصبح حينها كالأمين في مجتمع اللصوص والفاسدين، والصادق في مجتمع المتلوّنين والمنافقين؛ وهو ما وصفته القاصّة بدقّة حين صوّرت هؤلاء في هيئة جرذان تحاول النيل من بطل قصّتها، بما يمثّله ذلك من قيمة أخلاقيّة... فكان في اختيار الجرذ تحديدًا، إشارات سيميائيّة واضحة لمواصفات هؤلاء اللصوص الذين دخلوا في خصومة مع البطل، فهم مثل الجرذ من ناحية انتهاجه السرقة وسيلة للتكسّب، واختفائه في الجحور، وابتعاده عن المواجهة المباشرة، واحتقار الجميع له، وكذلك سهولة القضاء عليه إن لم يكن متحصّنًا خلف قبيلته التي تأويه... بذلك نرى أنّ الكاتبة وُفّقت في اختيارها، إذ استطاعت جمع كلّ تلك الصفات في مفردة واحدة.
هذا الأمر يوقفنا على أهمّيّة المفردة في القصص القصيرة جدًّا، وكذلك العبارات الجزلة التي يشترط فيها القدرة على إيصال عدد كبير من المعاني، أو المعارف والمعلومات، ممّا تحتاج إليه حمولة النصّ؛ وقد تحقّق ذلك بالفعل في أكثر من موضع، كقولها: «داهمت السماء غيوم داكنة التهمَت وهجها». نجد في هذه العبارة المترعة ما يشير إلى أنّ هؤلاء اللصوص يغيّبون جمال السماء وصفوها، ويكمن إبداعها في جعل هذا التغييب منوطًا بالغيوم التي يُستبشر بها خيرًا، ويُظَنّ فيها الظنّ الحسن، وكأنّها تشير بذلك إلى اتّباعهم نهج النفاق والخديعة، وإيهام المحيطين بهم بأنّهم سيمطرونهم بالعطايا والهبات، فيخدعوهم بمظاهرهم البرّاقة، بينما هم - في واقع الأمر - يستترون خلف كلّ ذلك لتنفيذ أجندتهم الإجراميّة.
كذلك في قولها: «عصبت عيوني بذراعيّ بينما تفرّقت الجموع هلعًا حتّى اختفت»، ونجد في هذه العبارة الغنيّة ما يشير إلى غبائهم وحقارتهم وجبنهم، حين فرّقهم خوفُها منهم ودسُّها رأسها في الرمال. ولا بدّ من التنويه هنا إلى الرمزيّة الجميلة التي وظّفتها القاصّة في اختيارها مواجهة الخطب الشديد بتغطية العينين؛ فبخلاف إظهارها الصفات التي أرادتها في الخصم، يمكننا أن نفهم منها ما يقع فيه أغلبنا عندما نظنّ أنّنا سننجو بهذه الطريقة، معتقدين أنّ الانكفاء على أنفسنا، والتعامي عن الفساد، طالما لم يمسّنا، سينجّيانا، بينما تصرّفنا هذا سيقوّي الفاسد، ويزيد من حجم فساده، حتّى تكون نهايتنا على يديه... إنّ العبارات التي استخدمت كشواهد على المعاني العميقة المستهدفة عديدة، وقد أجادت الكاتبة في اختيارها وتدوينها في سياق القصّة.
وإذا ما ابتعدنا عن الإشارات السيميائيّة الذكيّة، نجد أنّ النصّ أشار بكلّ وضوح إلى أنّ المفسد الأكبر هو الرئيس، ويتبعه باقي الجرذان الصغار، وأنّ الخطر الداهم يكمن في تناسلهم الكبير وتكاثرهم، وتكوينهم فريقًا واحدًا يجابه الشرفاء، ويحاول اقتلاعهم؛ ما جعل بطل القصّة يحتار بين مواجهة الصغار وإمكانيّة القضاء عليهم منفردين، أو الدخول في معركة غير مضمونة النتيجة مع كبيرهم الذي علّمهم السحر... ليختار في النهاية التراجع والهروب من مواجهتهم جميعًا، بتغطية عينيه، حتّى لا يرى نهايته وقد شعر أنّ مواجهته لهم انتحار، وهو ما رمز إليه بالاستقالة.
في ظنّي، عاب هذا النصّ نهايته التي فقدت الدهشة، إذ كان الأجدى بالكاتبة الحديث عن تقديم البطل استقالته، أو اتّخاذه القرار بخوض المنازلة، من دون الإشارة إلى أنّ الرئيس جرذ، فالسياق كفيل بإيصال الصورة من دون الحاجة لذكرها، خلافَ أنّ العبارة الأخيرة بيّنت ذلك صراحة، لمن يقرأ ما بين السطور. كذلك قد يكون الإغراق في الرمزيّة مثلبًا يُفقد النصّ جماله، مع أنّ الرمزيّة مطلَب، ولكن ينبغي اعتمادها باتّزان، والنجاح في ذلك هو المعادلة الصعبة التي تعطي النصّ قيمته الإبداعيّة، وإنّما يحتاج تحقيقُ ذلك إلى مهارة عالية، وتمرُّس كبير في الكتابة.
ولعلّي أختم بسيميائيّات ورموز دلاليّة متفرّقة أعجبتني في هذه السرديّة، منها: توظيف الكاتبة لقطّ الشوارع بشكل رائع، فكان في دخوله على السرد ما يشير بطريقة غير مباشرة إلى عقم الانشغال بالأذناب أو الأطراف أو اللصوص الصغار، في مواجهة الفساد، وكيف أنّ ذلك غير مجدٍ - رغم قدرته على اقتلاع بعض الفاسدين - طالما تُرِكَ الكبار الذين يرعونهم ويزيدون عددهم ويحمونهم، من دون محاسبة. وهو وصف دقيق جدًّا، أتى في مكانه، بالقدر الذي يحتاجه من الكلمات دون زيادة أو نقصان. فالمكافحة غير المنضبطة - رغم قوّتها أحيانًا - لا يعوَّل عليها، وليس باستطاعتها الوقوف أمام الفساد المنظّم المستشري، وما تحقّقه قد يقتصر على إبطاء حركته قليلًا، قبل عودة عجلته للدوران مرّة أخرى، بشكل أقوى من السابق، وباحترازات تصعِّب المواجهة وتطيل أمدها؛ وهو ما يمكن للّصوص والفاسدين التعايش معه، واعتباره محطّات استراحة والتقاط أنفاس، وتضحيات في سبيل البقاء، حيث أنّهم، رغم تفرّقهم بداية عند أيّ هجوم من هذا النوع وخسارتهم لبعض الأفراد، لا يلبثون أن يجتمعوا مجدّدًا، ويعودوا إلى سيرتهم الأولى بشكل يفوق ما كونوا عليه سابقًا... وفي ذلك إشارة خفيّة إلى أنّ الحلول المؤقّتة، في هذه الحرب الشرسة، لن تجدي نفعًا، وأنّ الحلّ الحقيقي - كما تراه الكاتبة - هو في قطع رأس الحيّة أوّلًا.
استوقفتني أيضًا رمزيّة مفردة «رجس»، والإتيان بها في العنوان فقط منفردة، وهو ما يشير إلى ذكاء الكاتبة ورغبتها في تحميل المشهد كلّ المعاني المتداولة لهذه المفردة دون استثناء، فليس هناك سياق معيّن يجعلنا نقرّر معناها المستهدف، ما يعني أنّها وظّفتها لوصف المشهد المسرود بأوصاف متعدّدة، منها أنّه عمل قذر مقترن بالشيطان، يشبه تعاطي بعض الموبقات، استنادًا إلى الآية الكريمة 90 من سورة المائدة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. كذلك يمكن اعتبار ما يصفه المشهد من تجاوز لا أخلاقي أمرٌ يستحقّ العقوبة من الله، وهي آتية لا محالة إن عاجلًا أو آجلًا، اعتمادًا على الآية الكريمة 125 من سورة الأنعام، قال تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}.
ويقودنا العنوان إلى وصفٍ آخر للمشهد، حي ث يمكن من خلاله اعتبار هؤلاء اللصوص قوم لا يعقلون ولا يتبصّرون بعاقبة تجاوزاتهم، وأنّهم سينالون سخط الله، وهو نوع أشدّ من العقوبة استنادًا إلى الآية الكريمة رقم 100 من سورة يونس، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}. كما باستطاعتنا النظر إلى المشهد أيضًا من زاوية أنّ ما يقوم به هؤلاء قذارة ينبغي اجتنابها، والالتفات للطيّب من الرزق الحلال والقول الحلال،كما جاء في الآية 30 من سورة الحج، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}.
أيضًا يمكن النظر إلى المشهد على أنّه نصيحة قيّمة توجّه إلى هؤلاء اللصوص الفاسدين، والغرض منها تخليصهم من الدنس والذنوب ورذائل الفعال، وتبصيرهم بالطريقة المثلى للعودة عن ذلك، اعتمادًا على إقامة الصلاة والنهوض بالفروض الإسلاميّة التي أوجبها الله، كما جاء في الآية 33 من سورة الأحزاب، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}.
ومن المعاني التي يرشدنا إليها العنوان أيضًا، إمكانيّة وصف هؤلاء اللصوص بأنّهم أنجاس وخبثاء، حسب وصف القرآن في الآية 95 من سورة التوبة، ما يستوجب الابتعاد عنهم، ويُعَدّ ذلك مبرّرًا مقنعًا لقيام البطل بتقديم استقالته والإعراض عنهم، قال تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}. والقول الأخير في عمق عتبة العنوان وقدرتها على إيصال عدد كبير من المعاني، عند وصفها هؤلاء اللصوص بأنّهم امتهنوا الكذب والنفاق، إضافة إلى القذارة التي هم عليها في فعلهم القبيح، استنادًا إلى المعنى الذي ورد في سورة التوبة الآية 125، قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ}.
في النهاية، باعتقادي، إنّ النصّ جميلٌ بالفعل، بل رائع، ويحتاج - كما أسلفت - لخلق مفارقة في نهايته فقط، كأن يُصدم البطل حين يرى وجه رئيسه عند استدارته، بما يشير إلى أنّه يشبه الجرذ الأكبر الذي رآه ليلًا، دون ذكر ذلك صراحة، إذ إنّ العبارات الأخيرة التي أشارت فيها إلى أنّ البطل تحوّل إلى قطّ شوارع عند رؤيته وجه رئيسه، واتّخذ قرار الوقوف في وجهه، كانت كافية وتغني عن التصريح الذي أضعف النهاية. كما كان ينبغي إدخال بعض التعديلات البسيطة بإيراد شواهد إضافيّة تخفّف قليلًا من رمزيّته وتيسّر قراءته للجميع، مع أنّ الشواهد بوضعها الحالي - في ظنّي - مقبولة، ولا تحتاج إلّا لاشتغالات بسيطة من المتلقّي لاستيعابها وفهمها؛ والهدف - بالتأكيد - وصولنا إلى نصّ إبداعيّ بحقّ، يأخذ بأيدينا للوصول إلى عمقه دون إجهاد أو تعب.