سهام القحطاني
هل التطور الفكري للمثقف يحرره من النسقية الثقافية؟
وهذا السؤال فخ في ذاته؛ لأنه قد يدخلك في «متاهة التأويلات»؛ لتجد نفسك أمام انعكاس لمرايا مقلوبة.
فكلما تطور فكر المثقف اتسع إيمانه بالآخر أو «تضخمت ذاته»، آمن بوجوب حق الاختلاف أو بتقديره الأعلويّ لصوته مقابل الصوت الآخر، باعتبار أن الارتفاع يهدم قانون تساوي الأحجام.
على العموم تظل «مسألة الحدود» هاهنا هي الجدلية الإشكالية؛ فما حدود الإيمان بالآخر؟ وما حدود ممارسة حق الاختلاف؟ وما حدود الذات والجماعة في المحافظة على خصوصية تحميهما من توسع الآخر داخلهما، أو اندماج المختلف مع أصالتهما؟ فالحدود دوما هي التفاصيل التي يختبئ في أكمامها الشيطان.
وتلك الحدود هي التي تحوّل الآخر إلى «عدو محتمل» والاختلاف إلى «صراع».
الحدود هي مجموع ما يمثل هويتنا/أصالتنا/خصوصيتنا التي نتوارثها عبر الأجيال من خلال الأوعية الأدبية، وبذا فنحن هنا أمام «نسقية ثقافية» تتحكم في خريطتنا الجنينية، وهي التي تخلق تلك الحدود وتتحكم في «أثرها الوظيفي».
ظهر مصطلح «الأنساق الثقافية» كردة فعل للإمبريالية الثقافية التي تجلت في رمزيات العولمة، والصوت الثقافي للأقليات وهو ما دفع تلك الأقليات إلى إحياء «أنساقها الثقافية» مقابل معارضة سلطة ثقافة الأكثرية، ولعل هذه المقابلة هي التي أسست للأنساق الثقافية» السلوك غير إنساني غير ديمقراطي» كما يرى الغذامي -كتاب النقد الثقافي».
وهي دلالة على أن «النسقية الثقافية النشطة هي مصدر العنصرية والتطرف»؛ باعتبار أن السلوك لا يحقق لا إنسانيته ولا ديمقراطيته إلا من خلال مؤشر سلطة النسقية الثقافية النشطة في مسارها الإجرائيّ والتنفيذيّ.
لكنّ الحدّية التي تبدو في ظاهر عبارة أن الأنساق الثقافية تؤسس «لسلوك غير إنساني و غير ديمقراطي» لا يجب أن تُفسّر وفق «طاقمها الحرفيّ» ؛لأن كليّة الحكم في ذاتها هي معادل للتطرف.
فهل كل نسق ثقافي تمارسه الذات أو الجماعة هو مؤشر بأن تلك الذات أو الجماعة تفتقد السلوك غير الإنساني وغيرالديمقراطي؟.
ولذا أظن أن تقييد «النسق الثقافي» بحكم مطلق الصفة،هو أمر يتنافى مع منطق منظومة المقتضيات.
صحيح أن الغذامي يؤطر النسقية «بأثرها الوظيفي» لا بوجودها في ذاتها؛ الأثر الذي يظهر في حالة التعارض «حينما يتعارض نسقان أو نظامان من أنظمة الخطاب أحدهما ظاهر والآخر مضمر، ويكون المضمر ناقصا وناسخا للظاهر»-كتاب النقد الثقافي» ويشترط في ذلك الأثر الوظيفي وحدة الاقتران في الحدوث و في التكوين.
ليؤكد على أن النسقية الثقافية النشطة تتجلى في حالة الصراع، لا التوافق،و في حالة الأحادية لا التعددية، و في حالة النبذ لا الاندماج؛أي أن المشروطية وصفتها هما جوهر التحقق.
وإن كان الأمر كذلك فأين الخلل في اعتبار النسقية الثقافية النشطة «تهمة رجعية»؟
الخلل دوما في تأويل خلفيات المصطلحات، و التي تحيطها بالاضطراب، وهو اضطراب يخلق ازدواجية معاييرها و مؤشراتها،هذه الازدواجية هي التي تُوِجد للنسقية النشطة مخرج خلاص من تهمة الرجعية، وتحوّلها من «مصدر صراع» إلى «درع حماية «لهوية الذات و الجماعة،أو كما يصفها الغذامي «الحيلة الثقافية»و التي يربطها بفكرة «الجمال» في رمزياته المتعددة.
إن قرار فرنسا بمنع»الحجاب» مثلا هو تمثيل لديكتاتورية النسق الثقافي للطرف المتضرر،في حين أنه قرار يحفظ إطار هوية المجتمع الفرنسي بالنسبة للطرف صاحب القرار».
وبذلك فمعيار الحكم لقيمة أو ضرر النسقية الثقافية النشطة سواء للذات أو الجماعة هما أمران نسبيان لمعتقد الذات والجماعة، وفقا لمستوى ما تحققه تلك النسقية من مفهوم حماية لخصوصية الهوية، أو مفهوم الحق في الدفاع عن النفس أو مفهوم كشف زيّف النسق المقابل، فالنسقية الثقافية النشطة ليست دوما هي «الآخر الجحيم».
و وجود «ذات ثقافية عذراء» لم تُدنّسها خطيئة النسقية الثقافية،أو تابت توبة نصوحة عن خطيئة النسقية الثقافية، هما أمران غير حقيقيين.
ولذا فإن الإقرار بوجود «النسقية المجردة من الظل» كمؤشر لحداثة حقيقية للذات الثقافية لا يُمكن تحققها على أرض الواقع.
فمهما تطور فكر المثقف فإن ظل النسقية سيبقى حاضرًا و لو في أدنى آثاره،وهو ما عبر عنه الغذامي بمصطلح»الحداثة الرجعية».
فكلنا نسقيّون بأقنعة تتوارى في الظل.