د.محمد بن عبدالرحمن البشر
تحدثنا في المقال السابق عن الأزرقي مؤلف كتاب أخبار مكة، وهو أول الكتب التي تتحدث عن مكة المكرمة، والمتاح بين أيدينا والتي نجت من عاديات الدهر، والنفاسة في قدمه أكثر من مادته، ومكة المكرمة منذ مدة طويلة تعتبر دولة من دويلات المدن التي كانت سائدة في الأزمنة الغابرة، وحباها الله الكعبة المشرفة، والبيت الحرام منذ مقدم أبونا إسماعيل، وكانت تلك الدويلات في العادة تنشأ في المناطق ذات التضاريس الصعبة، مثل الجبال فتكون كل مدينة على رأس جبل لصعوبة التواصل بينها، لكن مكة المكرمة على خلاف ذلك، فإن لديها تواصلاً مع ما حولها من البلدان، ومثلها المدينة المنورة، والطائف، وفي ذات الوقت نجد أن هناك إن صح التعبير دويلات متنقلة، وهم أبناء البادية الكرام الذين يتزعمهم شيخ القبيلة، ويتنقلون طبقاً لظروف الطقس، والأمن، وإذا لم يجدوا ما يسد رمقهم، فإنهم يلتمسون الرزق حولهم، من البادية أو الحاضرة، ومن تلك الحواضر مكة والمدينة، وفيما يبدو أن عدم تكوين دولة، والبقاء على دويلات متناثرة يعود إلى عدم توفر الأنهار والبيئة المناسبة للزراعة، وهي الأساس الاقتصادي في ذلك الوقت، إضافة إلى عدم وجود دين أو منهج، او أيديولوجيا، أو غير ذلك يستطيع قائد ما أن يدعو الناس إليه، ويجمعهم حوله، ولهذا فإنه بعد أن أرسل الله سبحانه وتعالى رسول الهدى محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب الهاشمي القرشي صلى الله عليه وسلم بدين الحق، اجتمع الناس حول هذه الرسالة فتكونت دولة ثابتة وقوية، وزالت دويلات المدن.
في عهد النبوة وقبل ذلك كانت مكة المكرمة حاضرة، سكانها حضر من قبائل متعددة، ومعظم قاطنيها من قبيلة قريش المضرية الإسماعيلية، مع بعض القبائل الأخرى، مثل خزاعة، وكنانة، وقضاعة، وجرهم، وهذيل، وغيرها من القبائل العربية، وكان لقريش منذ قصي بن كلاب شرف الحجابة، والسدانة، والسقاية، والرفادة مع القيادة، وأول من تولى أمر الكعبة ورعايتها، إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، ثم نابت بن إسماعيل، الذي عاش وإخوته الإثني عشر بعد وفاة والده إسماعيل عليه السلام في كنف جده لأمه مضاض بن عمرو الجرهمي، حيث تكفل به وإخوانه وضمهم إليه، ورعاهم خير رعاية، ونابت وإخوانه، وأمهم يقال لها رعلة أو السيدة.
بعد وفاة نابت أصبحت أمور الكعبة بيد جده لأمه مضاض، الذي رعاها وصانها وقدم للحجاج الرفادة والسقاية، وكثر بنو إسماعيل الذين عاشوا مع أخوالهم من قبيلة جرهم، لاسيما أبناء نابت وقيدار، وكانوا يداً واحدة، وبعد أن ضاقت بهم مكة انتشر بنو إسماعيل في كل مكان، وحسن حالهم، لكن الدنيا لا تدوم على حال، فبعد مدة من تسيد جرهم، قدمت قبيلة خزاعة، وأرادت النزول بمكة، فأبت جرهم، فاقتتلوا، وانتصرت خزاعة واغتصبت منهم السقاية والرفادة والحجابة، وأمور مكة كلها، بعد معارك وحروب، وتشردت جرهم، وبقيت أمور الكعبة بين أيدي خزاعة نحو ثلاثمائة سنة، وذات يوم تاقت نفس أحد أحفاد مضاض بن عمرو، واسمه مضاض أيضاً أن يزور مكة، فقدم إليها، لكن ملكها كان عمرو بن حيي الذي قد أمر قومه أن يقتلوا من قدم من جرهم، فأرسل مضاض إبله فلما رأوها نحروها، ولما رأى النحر في إبله، خاف على نفسه القتل، فعاد أدراجه، وقال أبيات محزنة ومؤثرة، يصف فيها مآله، بعد تغير حاله، ومنها:
كَأَنْ لَم يَكُنْ بين الحُجونِ إلى الصَّفا
أنيسٌ وَلَمْ يَسْمَرْ بمكَّةَ سَامِرُ
بَلَى نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا فَأَزَالَنَا
صُرُوفُ اللَّيَالِي وَالْجُدُودُ الْعَوَاثِرُ
والحجون: موضع في مكة المكرمة، مازال يحمل الاسم حتى الآن، والجدود العواثر: الحظوظ العاثرة.
وَبَدَّلَنَا رَبِّي بِهَا دَارَ غُرْبَةٍ
بِهَا الذِّيبُ يَعْوِي وَالْعَدُوُّ الْمُحَاصِرُ
فَإِنْ تَمِلِ الدُّنْيَا عَلَيْنَا بِكُلِّهَا
وَتُصْبِحُ حَالٌ بَعْدَنَا وَتَشَاجُرُ
فَكُنَّا وُلَاةَ الْبَيْتِ مِنْ بَعْدِ نَابِتٍ
نَطُوفُ بِهَذَا الْبَيْتِ وَالْخَيْرُ ظَاهِرُ
فَأَخْرَجَنَا مِنْهَا الْمَلِيكُ بِقُدْرَةٍ
كَذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ تَجْرِي الْمَقَادِرُ
يقصد بقوله: من بعد نابت، أي نابت بن إسماعيل عليه السلام، ومضاض قائل الأبيات وقومه أخوال نابت، وأردف قائلاً:
وَصِرْنَا أَحَادِيثًا وَكُنَّا بِغِبْطَةٍ
كَذَلِكَ عَضَّتْنَا السِّنُونَ الْغَوَابِرُ
فَسَحَّتْ دُمُوعُ الْعَيْنِ تَبْكِي
لِبَلْدَةٍ بِهَا حَرَمٌ أَمْنٌ وَفِيهَا الْمَشَاعِرُ
وفي قصيدة أخرى، يقول:
وَاسْتَخْبِرُوا فِي صَنِيعِ النَّاسِ قَبْلَكُمُ
كَمَا اسْتَبَانَ طَرِيقٌ عِنْدَهُ الْهُونَا
كُنَّا زَمَانًا مُلُوكَ النَّاسِ قَبْلَكُمُ
بِمَسْكَنٍ فِي حَرَامِ اللَّهِ مَسْكُونَا
لكن قصة طريفة حدثت، فقد كانت مفاتيح الكعبة في يد رجل من خزاعة، وبعد أن كبر الخزاعي وأصابه الوهن، دفع بمفاتيح الكعبة إلى ابنته زوجة قصي بن كلاب القرشي، ولكنها وكلت الأمر إلى رجل يقال له أبوغبشان، كان محباً للخمر، وذات يوم جلس في الطائف في مجلس خمر مع قصي بن كلاب، فأخذ منه الخمر ما أخذ، واحتاج إلى بعض المال، ليشتري زق خمر، أي وعاء خمر مملوء به، فسأله قصي إن كان يبيع مفاتيح الكعبة كقيمة للخمر فقبل الصفقة، وبعد أن ذهب أثر الخمر، وعاد التبصر وأدرك عظم الأمر، ندم على ما فعل، وصارت مفاتيح الكعبة بيد قصي بعد تحكيم من حكيم ارتضاه الطرفان، وبهذا صارت قريش سدنة الكعبة، وبعد وفاة قصي دفع المفاتيح إلى ابنه عبد الدار، وبقي حتى يومنا هذا، وقيل مثلاً (اخسر من صفقة أبي غبشان).