د. عبدالحق عزوزي
هناك جدل دولي اليوم عن جدوى إبقاء وتطوير منصات تشات جي بي تي من عدمه، وهي تدخل في إطار الذكاء الصناعي اللامتناهي وخلق عقول غير بشرية تفوقنا ذكاءً وتتفوق علينا وتحل محلنا؛ وتقوم هاته المنصات بالجمع الجماعي للبيانات الشخصية وتخزينها لغرض «تدريب» خوارزميات تشغيل المنصة... شخصياً كأستاذ جامعي يؤطر أطاريح الدكتوراه وأبحاث نهاية الدراسة في الجامعة، أنا ضد تطوير هاته الأنظمة لأننا سنساهم في جلب جيل من الباحثين لا قدرة لهم على الفهم والشرح والتنظير والإبداع... لأن معد أطروحة الدكتوراه مثلاً في العلاقات الدولية والعلوم السياسية والذي يشتغل على النظام الدولي الجديد أو على العقيدة الاستراتيجية الروسية الجديدة أو على الأنظمة الدستورية في إفريقيا، أو على مسألة فصل السلط.. سيضع هاته المواضيع على المنصة ويأمرها بعدد الصفحات، وستأتيه المنصة بأعمال جاهزة ودقيقة وتخضع لقواعد الأكاديمية والعلمية؛ ونفس الشيء يقال في ميادين الطب والبيولوجيا وغيرها...والأدهى من ذلك والمصيبة الآزفة، أنه يمكن استخدام «تشات جي بي تي» لكتابة رموز معلوماتية من دون الحاجة إلى امتلاك معرفة تقنية.
ولن نجد نحن المؤطرين مفراً من قبول هاته الأعمال لأنك ولو بحثت باستخدام كل الأنظمة المعلوماتية المختصة بالبلاجيا، ستجد هاته الأبحاث خالية من النقل وكأنها من تأليف الطلبة والباحثين؛ والنتيجة طبعاً ستكون مدمرة للمجتمعات ومقوضة لأسس الجامعات، وستوقف إعمال العقل والاجتهاد عند الملايين من البشر وسنخرِّج إلى السوق الفكرية أناساً لا علاقة لهم بالبحث العلمي ولا بالتنمية وغير قادرين على حمل مشعل التأطير الفكري والتوجيه العلمي منا وسينجحون بسهولة وسيتوفرون في النهاية على دبلومات لا تعكس الشروط المطلوبة... ولا يجب أن ننسى أن مثل هاته المنصات ستقوي من خطر تنامي الخدع الإلكترونية ونشر المعلومات المضللة والجرائم الإلكترونية.
وفي هذا الصدد، حذر مؤخراً المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، السيد فولكر تورك، من أن التقدم الذي تم إحرازه في مجال الذكاء الاصطناعي يمثل خطراً بالغاً على حقوق الإنسان، داعياً إلى وضع «محاذير فعالة». كما أعرب في بيان مقتضب عن «قلقه الكبير إزاء قدرة التقدم الأخير في مجال الذكاء الاصطناعي على إلحاق الضرر». وتابع القول بأن «كرامة الإنسان وكل حقوق الإنسان في خطر كبير». ووجه تورك «دعوة عاجلة إلى الشركات والحكومات من أجل أن تطور سريعاً محاذير فعالة». وأكد «نتابع هذا الملف عن كثب، سنقدم خبرتنا في مجالات محددة وسنسهر على أن يبقى بُعد حقوق الإنسان محورياً في تطور هذا الملف».
وتحاول عشرات الدول بينها الولايات المتحدة والصين وضع تنظيمات لتطوير الذكاء الاصطناعي واستخدامه في المجال العسكري، محذرة من «عواقب غير مرغوب فيها». وأعرب النص الذي وقعته أكثر من ستين دولة، عن مخاوف متعلقة بـ «مسألة الانخراط البشري» إضافة إلى «انعدام الوضوح على صعيد المسؤولية» و»العواقب غير المقصودة المحتملة».
ويعد الذكاء الاصطناعي بثورة حقيقية في عمليات البحث على الإنترنت واستخدامات كثيرة أخرى ما زال يتحتم استكشافها، غير أن الخبراء يحذرون من أنه يطرح كذلك مخاطر مثل انتهاك الحياة الخاصة وخلل في الخوارزميات وغيرها، تستدعي تنظيم هذا القطاع، وهو ما يصعب القيام به في ضوء التطور السريع لهذه التقنيات.
ونفهم في هذا السياق لماذا دعا الملياردير الأميركي إيلون ماسك ومجموعة من خبراء الذكاء الاصطناعي ومديرون تنفيذيون، في رسالة مفتوحة وقعها أكثر من ألف شخص، إلى التوقف لمدة ستة أشهر عن تطوير أنظمة أقوى من روبوت الدردشة تشات جي بي تي الذي أطلقته شركة أوبن إيه.آي في الآونة الأخيرة، مشيرين إلى المخاطر المحتملة لمثل هذه التطبيقات على المجتمع.
كما أشارت الرسالة الصادرة عن معهد فيوتشر أوف لايف (والتي يمولها بالمناسبة كل من مؤسسة ماسك، ومجموعة فاوندرز بليدج ومقرها لندن، فضلاً عن مؤسسة سيليكون فالي كوميونيتي)، إلى وجوب «تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي القوية فقط عندما نكون واثقين من أن آثارها ستكون إيجابية، وأن مخاطرها ستكون تحت السيطرة».
كما نفهم لماذا بدأت بعض الدول من منع هاته المنصات من بلدانها مثل إيطاليا التي منعتها بمبرر أنها لا تحترم التشريعات المتعلقة بالبيانات الشخصية، ولا يوجد عندها نظام للتحقق من عمر المستخدمين القصّر...