أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لقد اخترت لكتابي الفحل الذي لم ير النور بعد عنوان (الكُنَّاشة الظاهرية)، وقد فرغت من تأليفه منذ خمسة وثلاثين عاماً؛ وكانت البداية منذ خمسين عام ونيِّف، وكنت أرتاد ما نجز من الكتاب بالإضافة، أو الحذف، أو التصحيح، ولقد عانيت من التظاهر بالمعرفة الأدبية؛ وهذه القضية تقلقني جداً حينما أرى كثرة العمل الإبداعي الحديث، وأرى ولع الشباب واليافعين ومن تناوشوا الكهولة بهذا الأدب، حتى لا يكاد يكون لهم تخصص غيره؛ وهذا وحده لا يقلق؛ وإنما المقلق حقاً ما أراه من تظاهر بالمعرفة الأدبية؛ فإذا ظل هذا التظاهر في صفوف عاشقي الأدب الحديث؛ فإنني لن أرجو خيراً لمستقبلنا الأدبي.. إن بين الأدب الحديث وبين جمهوره الحقيقيين علاقة عشقٍ صادقٍ أكيد؛ لأن بين الأديب وجمهوره ثقافة جديدة مشتركة تجاوزت ثقافة من شب على معلقة (امرىء القيس)، وشاب على همزية (أحمد شوقي)!!؛ وهذه ثقافة الشيوخ وبعض الكهول؛ وهذه الثقافة الجديدة المشتركة لم تدخل بعد عقدها لمستعجلي الحماس للأدب الحديث، ومستعجلي محاكاته.. وهؤلاء المستعجلون هم مواليد الثمانين غالباً؛ ومواليد الثمانين أنفوا من التقوقع على ثقافة الشيوخ؛ لأنها ثقافة تجاوزتها حضارة العصر.. ونعم الأنفة أبايتهم؛ إلا أن التجاوز لا يكون إلا بعد عبور وإحاطة بمعالم الماضي، واستسهلوا الحماس للأدب الحديث، ولم يصبروا على معاناة عقد الثقافة الجديدة التي ترفد هذا الأدب؛ ليكون حماسهم عشقاً لا تعشقاً.. ومن نقطة الضعف هذه كان التظاهر بالمعرفة الأدبية بين مواليد الثمانين، وبعض من تناوشوا الكهولة.
قال أبو عبدالرحمن: خذوها حكمة من قارحٍ جرب الأمور أنه لن يكون لنا مستقبل ثقافي (لا أدبي وحسب) ما ظل الإصرار على ذلك التظاهر؛ لسببٍ وحيد بسيط هو أن من يفهم الأدب الحديث ويتذوقه بعشقٍ صادقٍ إنما هو طلعة نادر الثقافة؛ لأن الأدب الحديث (؛وأعني روائعه، لا أوشابه) طلعة حضارية بشقيها الفكري (الثقافي)، المادي (العلمي).. إن جمهور النص الأدبي الحديث إذا وجد الجمهور الحقيقي سيفوق جمهور شوقي، ومن تلاه من الرومانسييين، ومن عاصره من المهجرين.. إنه سيفوقه ثقافةً، وموهبةً، وحساً أدبياً؛ لأن في الأدب الحديث ما أضافه التجاوز إلى الثقافة السالفة؛ ولأن الأدب الحديث خبرة عالمية شاسعة في فنون الفكر والعلم.
قال أبوعبدالرحمن: ولقد أحسن جبرا خليل جبرا بترجمة (قلعة اكسل) الذي هو من بواكير (أدمون ولسون) النقدية.. وأهم ما يهم من يحشر نفسه في جمهور الأدب الحديث أن يستخلص المناخ الأدبي الحديث؛ فتكون هويته متميزة واضحة في ذهنه.. وصاحب النقد التمهيدي هو الأقدر على رسم المناخ الأدبي في العيان قبل تمثله في الأذهان.. والناقد الممهد لا يملك نفسه عادة من إبداء تذوقه، وطرح حكمته، وقد لا يوفق في ذلك إلا أن ذلك لا يضر؛ لأن حكمه وتذوقه ملك له؛ وإنما المطلب في تفسيره.. وقد قلت كثيراً أن النص الأدبي الغامض إذا فسر وفسرت علاقة النص الأدبي بجمهوره الحقيقي؛ فالتشاح في الأحكام فيما بعد لا يقلق المستقبل الثقافي الطموح؛ لأن الأحكام إذا تحددت دلت على ثوابت غنية، وإذا اختلفت دلت على مذاهب فنية.. إن الناقد الممهد كما يوصل النص الأدبي إلى جمهورٍ أكثر يكشف في المقابل عن نصوصٍ لا تعني شيئاً؛ وبهذا تُنْفى الأوشاب من أدبنا الحديث.. والنقاد الممهدون يملكون جوامع الكلم، ويعينون القارىء على زيادة من التأمل لاستخلاص مفاهيم جديدة، ولقد رأيت غبطة (ستانلي هاين) بترجمة (أدمون ولسون)؛ لهذا النص لشكسبير: (أولئك الذين لديهم القدرة على الأذى ولا يفعلون)؛ فليست هذه ترجمة قاموسية تحصر الفكر في التعريف المعجمي؛ بل هو تفسير ينطوي على احتمالات تـحرك الفكرة؛ ولهذا وصفه بأنه (حركة ممكنة من حركات التفكير).. إن القارىء حينئذٍ لا يكون تابعاً، مسلوب الإرادة؛ ولكنه مشارك متابع لا تابع.. وإذا أصبح سيناريو الأدب الحديث واقعاً نقدياً في ساحتنا اليوم تتضافر عليه كل الجهود أصبحت سوق (التعالـم النقدي) كاسدة ممجوجة؛ لأن محترفي التعالم النقدي يأتون إلى نصٍ لا يعني شيئاً فيحملونه ما لا يحتمل ليعني شيئاً؛ فيأتي السيناريو العلمي كاشفاً لمخازي الادعاء الأدبي، والتعالم النقدي.. إن السيناريو إمداد من الواقع؛ فعلى سبيل المثال لا يمكن من يحترم عقله أن يزعم بأن تفسيرات (طه حسين) لتعقيدات (المتنبي) في قوله: (وفاؤكما كالدمع أشفاه ساجمه) تعالم نقدي؛ لأن اللغة لا تدل عليه من سياق القصيدة؛ بل أن القارىء يرجع إلى سيرة (المتنبي)؛ فيرى أن ما ذكره العميد سيناريو تاريخي عمق المدلول اللغوي للقصيدة؛ وبهذا تعلم أن السيناريو أعمق من مجرد السياق اللغوي.. ولو خرجنا عن دائرة الأدب الحديث قليلاً، واحتفينا بنظرية من ربط بين نشأة (ماركس)، وسيرته وما لاقاه من فرٍ وشح وما انطوى عليه من حقدٍ، وبين فكره الدامي كان مثل هذا سينارياً علمياً.. ونجد من معطيات علم النفس، والتحليل النفسي تجريد مقولة نصها: أن تفوق الفنان في فنه تعويض عن طموح آخر؛ فهو دليل على نقص؛ ولهذا اعتبرت العبقرية مرضاً؛ فإذا ربط الممهد الظاهرة الأدبية بالظاهرة النفسية فذلك سيناريو علمي يقره علم النفس.. ويوجد في مبدعي الأدب من يتخذ جماليات الفن وسيلة لترويج أيدلوجية معادية، ويجعل تنظيره النقدي، وتحمسه للنظرية النقدية ستاراً لأيدلوجيته.. كما نجد في موقف (أدونيس) من السماء الثامنة (مدينة الغزالي)، ورواية (الدولة العثمانية) مع رموز الريح والمرماد والمخلص.. إلخ؛ فالربط بين الفن والأيدلوجية في النص الأدبي سيناريو علمي يرفع مستوى الجمهور عن مجرد التلقي، وينبه وعيه فلا يقع في حيل الأيدلوجيات الفنية المفتنة لكيانه.
قال أبو عبدالرحمن: إن الناقد السهد يجند مذخوره الأدبي وخبرته الثقافية في مد أروقة السيناريو الذهبي فيمنح الجمهور المتلقي المتعة الفنية في النص الأدبي، ويمنحه المشاركة الفكرية في الوعي بكل ترويجٍ فنيٍ غير مأمون، كما يمنحه الثقة بتقزيم غطرسة الأديب وتعاليه؛لأنه يلفه بمذخورٍ ثقافيٍ أوعب.. إن قضيتنا اليوم هي قضية السيناريو العلمي للنص الأدبي حتى نحقق شموخاً يستعلي على غطرسة الأديب وإملاء المنظر، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم/ (محمد بن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين