د. تنيضب الفايدي
قبل أكثر من عشرة أعوام صدر كتاب (حماية البيئة في الإسلام) للكاتب، وقد جمع فيه أروع الصور للبيئة بمكوّناتها، وكتب عن البيئة وأهميتها؛ لأنها (أي: البيئة) هي مصدر السعادة والبهجة كما ورد في القرآن الكريم قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (سورة النمل الآية 60). وقد أحسنت جريدة الجزيرة صنعاً عندما نشرت ضمن مقالات عدة صوراً تجلب البهجة والسرور والاطمئنان لمن اطلع عليها. وقد اهتم الإسلام بحماية البيئة كثيراً، كما نهى عن الإفساد فيها؛ لأن البيئة النظيفة لها دورٌ كبيرٌ في المحافظة على صحة الإنسان، وبالصحة ينال الشخص الطمأنينة والراحة النفسية، كما أن الصحة سببٌ أساسي لتمتع الإنسان بالنعم الأخرى ويستطيع مواجهة مصاعب الحياة وهمومها. وإن تلوثت البيئة فبالتأكيد سيؤثر ذلك على صحته، لذا حثّ الدين الإسلامي من خلال الكتاب والسنة على ضرورة حماية البيئة التي يعيش فيها الإنسان وتدبير موارده تدبيراً حسناً، وإلحاق أقلّ الضرر بالنظم البيئية, قال الله تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} سورة الأعراف الآية (56)، وقال تعالى: {وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} سورة الأعراف، آية (74)، ذلك لأن قصد الضرر والإفساد للبيئة الطبيعية ومواردها يعتبر نوعاً من الفساد المنهي عنه في الإسلام الذي يجب على المسلم اجتنابه، وقد طبق الإسلام عملياً في مكة المكرمة والمدينة المنورة حيث حدد مكة المكرمة والمدينة المنورة كأول مناطق محمية في العالم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَلتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة المائدة الآية (2). وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم مكة فلم تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار, لا يختلى خلاها, ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرِّف، قال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر, لصاغتنا وقبورنا, فقال: إلا الإذخر» وعن خالد عن عكرمة, قال: «هل تدري ما لا ينفر صيدها؟ هو أن ينحيه من الظل وينزل مكانه»، متفق عليه. وعن أبي شريح خويلد بن عمر الخزاعي العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد بن العاص وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير، أحدثك قولاً قال به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عَيناي حين تكلم به، أنه حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجراً، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا له: إن الله أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب. فقيل لأبي شريح: ماذا قال لك؟ قال: قال عاصم: «أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يُعيذ عاصياً، ولا فاراً بدم، ولا فارّاً بخزية» متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين». رواه البيهقي وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المدينة حرم من كذا إلى كذا، لا يُقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدث، من أحدث حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين». متفق عليه. وعن عاصم بن سليمان الأحول قال: قلت لأنس: أحرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؟ قال: نعم، ما بين كذا إلى كذا، لا يقطع شجرها، من أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله، والملائكة والناس أجمعين. متفق عليه .
كما حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده من الصحابة وذلك للحفاظ على البيئة، فقد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم حول المدينة التي يسمى (حمى الشجرة) وحمى النقيع. فليس لأحد من الناس أن يحمي سوى أولياء الأمور، وليس لهم أن يحموا لأنفسهم.
وقد حمى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الربذة في سنة 16هـ فقد روى البخاري عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لا حِمَى إِلا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ يَحْيَى وَقَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَى النَّقِيعَ، وَأَنَّ عُمَرَ حَمَى السَّرَفَ وَالرَّبَذَةَ. رواه البخاري. ذكر ابن شبة في كتابه تاريخ المدينة عن ابن شهاب أن عمر رضي الله عنه حمى الربذة وأن عثمان رضي الله عنه حمى الشرف. وكلمة الحمى في الأصل تعني حماية منطقة محددة للمحافظة على ما فيها من نباتات وحيوانات حتى يتحقق التوازن في البيئة؛ لأن تدخّل الإنسان بالإسراف والإفساد أدّى إلى خلل في التوازن، وظهر نتائج ذلك الخلل على الأرض ومكونات البيئة جميعها بما فيها الكائنات الحية مثل: الإنسان والحيوان والنبات والهواء، كما بدأت بعض الظواهر غير المألوفة للإنسان مثل: تلوث الهواء والتصحر وعموم القحط والجفاف والأوبئة والظواهر الطبيعية الغريبة من اتساع طبقة الأوزون والانحباس الحراري وزيادة مستوى البحار ونقصان الماء العذب والزلازل وفيضان تسونامي وغيرها... وقد شعر الإنسان بالخطر وعقدت مؤتمرات عدة والندوات دولية, وصدرت عنها معاهدات واتفاقيات لمعالجة ما يحدث والتخفيف من آثاره على البشرية, مع أن الإسلام قد حثّ على حفاظ البيئة وعدم تلوّثها قبل أربعة عشر قرن، وطبّق عملياً في مكة المكرمة والمدينة المنورة، كما ذكرت سابقاً، كما أن مصادر البيئة في الإسلام حق مشترك بين أفراد البشر ولكلّ إنسان أن ينتفع بقدر الحاجة دون إسراف أو فساد, حيث خلق الله هذا العالم لخدمة الإنسان من منظور احترام حياة كل الكائنات الحية، كما كرم الله تعالى الإنسان إذ حباه سبحانه بالقدرة على الابتكار والبناء والإبداع لكي يعرف كيف يواجه المصاعب التي تعترض طريقه (كالعراقيل الطبيعية)، ويستشرف مستقبله بالاعتماد على التخطيط وعلى رؤية تتسم ببعد النظر، لذا حث الدين الإسلامي من خلال الكتاب والسنة على ضرورة حماية البيئة التي يعيش فيها الإنسان وتدبير موارده تدبيراً حسناً وعدم إلحاق أقلّ الضرر بالنظم البيئية, وبذلك سيجنب نفسه الآثار المباشرة وغير المباشرة التي تنجم على الاختلالات التي يتسبب فيها حتى يعيش في إطار صحي ملائم.