عبدالوهاب الفايز
بالنسبة للنخب السياسية والفكرية والمالية المحصنة ضد الانهزام الحضاري..
وفي هذه السنوات التي تشهد عودة روح الاعتزاز بالأوطان في كثير من بلاد الشرق الأوسط.. ألا يكون الأمر مزعجاً للكثيرين في هذا الشرق العظيم رؤية المعلقين والمذيعات الشقراوات في محطات التلفزيون الأوروبية والأمريكية وهم يتبادلون الابتسامات ويطلقون ضحكات الاستهزاء على (أموال الشرق الأوسط الغبية) التي تعودت - حين الانهيارات المالية المتعاقبة في الأسواق المالية الغربية - أن تكون أول الضحايا وأكبر الخاسرين.
ربما الانزعاج مصدره أن سخريتهم هذه تخرج تلقائية وبدون تكلف، والتفسير الثقافي أو الانثروبولوجي لهذه يقول لنا: هذه من مسلمات (المركزية الأوروبية/ الغربية) التي تُربي الأجيال على بناء (الأنا المتضخمة) التي تُنمي شعور التفوق الحضاري. وهذه الصورة الذهنية المرجعية للريادة باعثها الإحساس العميق والثقة المفرطة بالذات، فهي تسهل تسويق (وهم الكفاءة والجدارة). وهذه يستفيد كثيراً منها المدراء والمسوقون للمحافظ الاستثمارية الأمريكية والأوروبية الذين يجمعون الاستثمارات المالية الضخمة في بضعة أيام، وفي جولات محدودة في عواصم الشرق الأوسط، ويجمعون هذه الاستثمارات بسبب: (عيونهم الزرقاء!)، كما شرح أحد المصرفيين الأوروبيين لصديقه الشرقي حين سأله مستغرباً ومندهشاً من سرعة جمعه لرقم كبير من الأموال وفي أيام قليلة.
وأيضاً وعلى جبهة أخرى هذه المركزية الحضارية هي ذاتها التي تسهل تسويق الوهم بجدارة مخرجات شركات الاستشارات الإدارية والمالية الغربية المشهورة، حيث تحصل هذه الشركات على عقود ضخمة مستثمرة حالة الانهزام الحضاري للعملاء، ومدفوعة بإحساس التفوق والهيمنة السياسية والعسكرية. وشركات الاستشارات الإدارية، ومعها بيوت المحاسبة والمراجعة الغربية الكبرى حالياً يتم فتح ملفات فسادها وعلاقتها بانهيارات البنوك والمؤسسات المالية الغربية، وهذه ضربة موجعة جديدة لتفوق نموذج الحضارة الغربية.
لقد تعودنا على تعامل الإعلام الغربي السلبي مع دول الشرق الأوسط، فالتغطيات الإعلامية لم ولن تخرج عن الروح الموغلة والمُغرقَة بالسلبية عن الشرق التي حملها المستشرقون الرواد في طفرة حركة الاستشراق الأولى.. فلأجل تبرير هجمة الاستعمار ونهب الثروات تم تصوير شعوب إفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا بشكل متخلف، وزعموا أن قدرها البقاء في وضع الدونية الحضارية إذا لم يتم تحريرها وتمدينها. هكذا زينوا الأمور لأنفسهم.
وهذه الصورة السلبية للشرق، في الذهنية الأوروبية، هي التي تجعل في الوقت الحالي القيادات السياسية في الشرق الأوسط تخرج عن طورها في النقاشات والحوارات الإعلامية التي تحمل الاستعلاء والاستقواء الغربي على الشرق، والأهم: هي التي تجعل هذه القيادات تتحرك مرتاحة لإعادة تشكيل هيكل القوة الجديد لكي يخدم مصالح بلادها الوطنية في جبهات السياسة والاقتصاد والثقافة والرياضية. إنها الرحلة الكبرى لتأكيد الذات، واستعادة روح الشرق.
اللافت والغريب أن عودة القوة للشرق يتنبأ بها ويتوقعها الساسة والمؤرخون الغربيون ومنهم المؤرخ البريطاني بيتر فرانكوبان، ووردت توقعاته في كتابه الضخم (طريق الحرير..تاريخ جديد للعالم، 2015، أدب للنشر). في كتابه هذا يستخلص، وبعد دراسة عميقة، (أن التنوير وعصر العقل، والتقدم نحو الديمقراطية، والحرية المدنية، وحقوق الإنسان، لم تكن نتاجاً لسلسلة وهمية متصورة تعود إلى أثينا في العصور القديمة، أو إلى حالة طبيعية تطورت في أوروبا؛ بل كان ثمرة للنجاح السياسي، والعسكري، والاقتصادي الذي تحقق في قارات العالم البعيدة عن القارة العجوز).
والمهم لنا توقعه (أن البحر المتوسط الحقيقي هو قلب العالم، حيث نشأت الحضارة ابتداءً، وحيث تقاطعت حدود الإمبراطوريات الكبرى)، ويجزم أن الميزان الحضاري يميل (الآن وعلى نحو متزايد للبقاع التي ازدهرت منذ القدم، مثل: بخارى، ومرو، ونيسابور، وطشقند، وأن تلك البقاع ستعود سيرتها الأولى، وستكون منارات للعلم والحضارة كما كانت كذلك منذ آلاف السنين). أما الغرب، كما يتوقع، (فربما بات على مشارف مفترق طرق، بل قد يكون على مشارف نهاية طريق).
ولن نكتفي بهذا، فقبل أسبوعين رأينا صحوة ضمير غربية جديدة.
مالك (صحيفة الجارديان) البريطانيه أصدر اعتذاراً عن الدور الذي لعبه مؤسسو الصحيفة في تجارة العبودية عبر المحيط الأطلسي. وأعلن عن برنامج العدالة التصالحية لمدة عقد من الزمان. ويعتزمون استثمار أكثر من (12.3 مليون دولار أمريكي)، وتأتي هذه بعد ان أكدت تحقيقات مستقلة عن وجود ارتباط قوي بين مؤسس الصحيفة جون إدوارد تايلور والتجار الممولين للصحيفة وبين تجارة صناعة النسيج التي استوردت كميات هائلة من القطن الخام الذي ينتجه المستعبدون في الأمريكتين.
هذه الصحوة التاريخية للنخب الأوروبية نرجو أن تمتد إلى الاعتراف بأن أموال وثروات الشرق الأوسط كان لها الدور الرئيسي في نهضة أوروبا الصناعية. فثروات الشرق الأوسط كانت أكبر الممولين لأسواق المال الأوروبية في العقود الماضية، فقد استمتعت البنوك الأمريكية والأوروبية بالتمويل الرخيص لأسواقها. فالأموال الهاربة بسبب النزاعات أو تلك التي تبحث عن الملاذات الآمنة أو الاستثمارات غير المكلفة، هذه الأموال ظلت تتدفق لعدة عقود موفرة التمويل الضخم الممتد لاقتصاديات أوروبا وأمريكا.
بقي أن نأمل ونتطلع إلى تنامي الصحوة السياسية والاقتصادية القوية في المنطقة، فهذه سوف تعيد ترتيب العلاقات والمصالح، وأول الأمور التي سوف تخضع لميزان المصالح الدقيق هي الاستثمارت المالية في الأسواق الأوروبية. القادم هو: الاستثمارات الذكية بدل الغبية. الحكومات والشعوب أصبحت أكثر وعياً وإدراكاً لمصالحها. هذا الوعي يُترجم على أرض الواقع عبر الحراك السياسي والاقتصادي الذي يعيد للشروق الأوسط وشعوبه دوره الحضاري والقيادي السابق الذي تآمرت عليه القوى الأوروبية والأمريكية، فأشعلت فيه الحروب وفرضت عليه الاحتلال الذي سهّل نهب ثروات الشعوب.