رضا إبراهيم
يُعد الطيف الكهرومغناطيسي جزءاً أساسياً غير مرئي من الحياة الحديثة، سواءً كانت حياة مدنية أو عسكرية، والموجات الكهرومغناطيسية سهَّلت عملية نقل مختلف المعلومات بطريقة لاسلكية لأي مكان على سطح الأرض وإلى الفضاء الخارجي، فبعد سنوات قليلة من اكتشاف وتوليد هذه الموجات بدأ ظهور كثير من النُظم اللا سلكية، مثل التلغراف اللا سلكي عام 1900م والبث الراديوي عام 1918م والبث التلفزيوني عام 1935م.
ودون اكتشاف هذه الموجات، لأصبح البشر مقيدين في نقل معلوماتهم المختلفة بالقنوات السلكية التقليدية، التي تُحتم عليهم التواجد بأماكن محددة، نظراً لتواجد أطراف تلك الأسلاك كما هو الحال مع (الهواتف السلكية)، ما يعني أن تلك الكهرومغناطيسية شيدت نُظم اتصالات تكون فيها المرسلات ثابتة والمستقبلات متحركة أو بالعكس أو يكون كلاهما متحركاً، وهذا لا يمكن إنجازه باستخدام القنوات السلكية سوى على نطاق ضيق جداً، لذا بات بالإمكان الاتصال بالسفن وهي بعرض البحار والتواصل مع الطائرات وهي بجو السماء، والمركبات أينماً كانت مواقعها، وكذلك الأشخاص أينما وجدوا.
وعبر الموجات الكهرومغناطيسية، أمكن رؤية صور واضحة جداً لأسطح كواكب المجموعة الشمسية، من خلال كاميرات مثبتة على متن المركبات الفضائية، لترسل هذه الصور والمعلومات، من على أبعاد تصل إلى ملايين من الكيلومترات، وباستخدام هذه الموجات يمكن التحكم عن بُعد بكل أنواع الأجهزة والمعدات الموجودة، سواءً بالمنازل أو المكاتب أو المصانع، وكذلك بالأقمار الاصطناعية والمركبات الفضائية والطائرات والقذائف الصاروخية، ومع التقدم الكبير بمجال الإلكترونيات والاستغلال الأمثل لترددات الطيف الكهرومغناطيسي، بدأ التحول كلياً من القنوات السلكية للقنوات اللا سلكية، لنقل إشارات المعلومات والتحكم بمختلف المجالات.
هذا ويتكون الطيف الكهرومغناطيسي من ثلاثة أجزاء رئيسية، هي الطيف الراديوي الممتد من الصفر حتى (300) جيجا هيرتز يستغل بأكمله في نظم الاتصالات الراديوية، ثم طيف الأشعة المرئية وما تحت الحمراء ويمتد من (300) جيجا هيرتز حتى (3) مليون جيجا هيرتز، ويستغل جزئياً بأنظمة الاتصالات الضوئية وأجهزة الرؤية الليلية.
وأخيراً طيف الأشعة فوق البنفسجية والأشعة السينية والكونية، والتي يتعذر استخدامها لصعوبة توليدها وخطورتها على الكائنات الحيَّة، اللهم في بعض التطبيقات الطبية والصناعية، مثل استخدام الأشعة السينية في تصوير الأجسام الحيَّة، وفي اختبار المواد، وتُعد إدارة الطيف الكهرومغناطيسي مجال تزداد أهميته بالنسبة للجيوش العسكرية الحديثة.
وعن استخدام الكهرومغناطيسية في النواحي العسكرية، فقد عرَّفت وزارة الدفاع الأمريكية (بنتاجون) إدارة الطيف بأنها عبارة عن تخطيط وتنسيق لإدارة الاستخدام المشترك للطيف الكهرومغناطيسي، عبر الإجراءات التشغيلية والهندسية والإدارية، لتمكين القدرات والأنظمة المعتمدة على الطيف لأداء وظائفها بالهدف المقصود أو البيئة المخصصة لها، دون التسبب في ظهور معاناة أو تدخل غير مقبول.
لذلك تستخدم كافة الجيوش شبكات الكمبيوتر اللا سلكية، لتنسيق العمليات وطلب الإمدادات، واستخدام نُظم الرادارات وأجهزة الاستشعار لتحديد الموقع الصديقة أو المعادية، واستخدام أجهزة تشويش إلكترونية لتعمية رادارات العدو أو تعطيل اتصالاته ... إلخ، وحرب الطيف الكهرومغناطيسي ليست بالجديدة، حيث تعود تلك الحرب وتجاربها السرية إلى بداية القرن الماضي، ففي سنوات الحرب «الروسية اليابانية» وتحديداً عام 1904م ومع اقتراب حدوث مواجهة قصف بحري وشيك بين الجانبين، استخدم مشغل التلغراف الروسي جهاز إرسال عُرف بـ (فجوة الشرارة) للتشويش على راديو إحدى السفن اليابانية عند استعدادها للقيام بالهجوم.
وقد أتت تلك الأعمال الإلكترونية بنتائج أشبه بالعجائب، بمنعها اليابانيين من إكمال قصف السفن الحربية الروسية، لكن في العام التالي مباشرة وأثناء معركة (تسوشيما) رفض الأدميرال الروسي زينوفي روزستفينسكي بكبرياء شديد التشويش على أجهزة راديو العدو، زاعماً عدم ثقته في أن أجهزة الإرسال الخاصة به ستعمل كما ينبغي، واستغل الجانب الياباني الذي جهز سفنه بأحدث المعدات اللاسلكية، للتغلب على معظم أسطول البلطيق الروسي وتدميره.
وبعد نحو أربعة عقود من الزمن، وفي الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945م) حفز ظهور الرادار قوات المحور والحلفاء على ابتكار طرائق لإخفاء الطبيعة الحقيقية لمآثرهم الجوية، وكان من أشهر تلك الابتكارات نظام (مونشين) وهو نظام بريطاني يمتص الموجات الكهرومغناطيسية للرادارات الألمانية، ويقوم بتضخيمها ثم يرددها، ما يمَكَّن بضع طائرات فقط محاكاة (أسطول كامل من الطائرات)، وفي عام 1940م وفي ذروة الحرب العالمية الثانية نجح الألمان بتوجيه طائراتهم المقاتلة باستخدام الأشعة الكهرومغناطيسية أثناء الغارات الليلية التي شنتها على الأراضي البريطانية.
ما حدا بالجانب البريطاني الرد على هذه الإجراءات، باستخدام موجات كهرومغناطيسية مضادة اعتمدت أساساً على إرسال موجات وهمية لتضليل الطيارين الألمان، وجعل هذه العمليات على وجه الخصوص باكورة نماذج السباق التاريخي بمجال الحرب الإليكترونية، وأدت إلى اختراع كافة نظم وأجهزة إرسال الموجات وتطويرها بسلسلة الإجراءات المضادة للأخطار الإلكترونية الجديدة، وهو ما لم تشهده الحروب من قبل، وقبل تلك الواقعة بشهور قلائل واجهت القاذفات البريطانية تهديداً جديداً، تمثل بوجود طيارين ألمان قادرين على تعقب الطائرات البريطانية عبر استخدام أشعة الرادار.
وكان أحد أنواع الرادار التي واجهها البريطانيون «نظام الإنذار المبكر الأرضي» الذي نبه الطيارين الألمان إلى اقتراب الهجوم، بل وقدم أيضاً تفاصيل كـ «عدد الطائرات وسرعاتها»، وعبر الاتصالات اللا سلكية التي تم اعتراضها والغارات المباشرة على منشآت الرادار الألمانية، تمكن البريطانيون من معرفة تفاصيل هذه النظم مثل «تردداتها التشغيلية»، ما مكنهم من تطوير التقنيات اللازمة لمكافحتها، وبدلاً من مجرد التشويش على الرادار، طور الحلفاء كما أسلفنا من قبل أحد النظم الذي يستقبل إشارات الرادار الكهرومغناطيسية، ثم يقوم بتضخيمها ويعيد إرسالها لمستقبل الرادار، وقد نُظر لتلك الإشارات على أنها انعكاسات من طائرات إضافية.
وباستخدام هذه التقنيات، يمكن لطائرة واحدة أن تعمل كـ (شراك) لتسحب الأهداف بعيداً عن المناطق الأخرى، ومع ذلك كانت هذه النظم المبكرة تعتمد على تردد الرادار، وباستخدام رادارات متعددة بترددات مختلفة، بات خداعها أكثر صعوبة، وللرد على الرادارات التي تعمل عبر نطاق أوسع من الترددات، طور الحلفاء نظام تشويش يهدف إلى نقل الضوضاء في ترددات مختلفة عبر نطاقات الرادار، وكان هذا الإجراء أكثر فاعلية، حتى بدأ الألمان باستخدام ترددات إضافية للرادار بدلاً من التشويش على الرادار نفسه.
وسرعان ما اكتشف الحلفاء قدرتهم على تشويش إشارات الاتصال الكهرومغناطيسية، بين مشغلي الرادار والطيارين المقاتلين، ومن خلال مسح جهاز استقبال على مدى واسع من الترددات، تمكن البريطانيون من تحديد التردد المحدد، الذي كان يستخدمه الألمان للتواصل، ثم نقل الضوضاء على هذا التردد، وقد استمرت هذه الأعمال (ذهاباً وإياباً) باختراع طرائق جديدة لاستخدام الطيف الكهرومغناطيسي، وتطوير وسائل لمواجهة هذه التقنيات الجديدة خلال الحرب العالمية الثانية.
وفي فترة الحرب الباردة، ركزت الولايات المتحدة على صقل وتحسين الأساليب المبكرة للخداع الإلكتروني خلال المراحل الأخيرة من الحرب الكورية (1950 - 1953م)، فعلي سبيل المثال جهزت قاذفات القنابل الأمريكية طراز (بي 29) بأجهزة تشويش بدائية، أربكت الرادار الموجود على المدافع المضادة للطائرات المعادية، وبدءاً من عام 1965م جهزت طائرات البحرية الفيتنامية (الشمالية) بأجهزة تشويش على شكل طوربيد، أدت إلى تعطيل نظم الإنذار المبكر الأمريكية عبر سيل منهمر من الضوضاء الكهرومغناطيسية.
وفي الحرب العربية الإسرائيلية الرابعة عام 1973م، لاحظ أحد القادة العسكريين السوفيت بعد وقت قصير من استخدام الجانب الإسرائيلي لتقنيات التشويش، مدى قدرة الطائرات الإسرائيلية على التغلب على الصواريخ الموجهة السورية (م ط)، وخلال تلك الحرب وعبر كثير من التجارب ثبت أن الحرب القادمة، سينتصر فيها الجانب القائم باستغلال الطيف الكهرومغناطيسي أفضل استغلال، ويمكن رؤية ذلك بعد ما يقرب من عقدين من الزمن، بقيام القوات الجوية الأمريكية بتجهيز طائرة تشويش إليكترونية طراز (إف 111) حيث لعب دوراً رئيسياً بإغلاق محطات الرادار العراقية خلال الساعات الأولى من عملية عاصفة الصحراء (تحرير الكويت).
وعلى ذلك يؤكد الأدميرال المتقاعد جوناثان جرينرت قائد العمليات البحرية الأمريكية السابق، على أنه ومع وجود أجهزة التوجيه اللاسلكية أو الأقمار الصناعية، فإن جزء من كل شبكة كمبيوتر تقريباً يشكل الفضاء الإلكتروني والطيف الكهرومغناطيسي الآن بيئة واحدة مستمرة، كما يصر جرينرت على أن حرب الطيف الكهرومغناطيسية، لا تقل أهمية عن أي مجال تقليدي آخر للحرب بقوله (هذه البيئة أساسية جداً للعمليات البحرية، وهي بالغة الأهمية لمصالحنا الوطنية، لذا يجب علينا التعامل معها على قدم المساواة مع مجالاتنا التقليدية البرية والبحرية والجوية والفضائية).