رقية نبيل
إذا كنت تملك أدنى علم بالكاتب الطبيب المصري، عاشق الألغاز وهاوي ما ورائيات الطبيعة وناثرًا في كل لحظة الأسئلة الميتافيزقية، هذا الإنسان العاشق الرومانسي برغم كل شيء والذي هو قبل أي صفة أخرى إنسانٌ جدًا في أفكاره وتخيلاته وأهدافه، هذا الكاتب هو د.أحمد خالد توفيق.
لاشك أنك إذما كنت قد سمعت شذرات عنه، فأنت قد مررتَ قطعًا بشقة الدقي المتواضعة في القاهرة، وطالعتك مرارًا ملامح العجوز الأغبر شبه الأصلع الذي يشبه قلم رصاص واقف دون ممحاة ويدخن كأتوبيس قريته القديم، طبيب أمراض الدم المتقاعد والشيخ الهرم الذي جاوز السبعين ورأى وعايش كل تجربة مريعة في هذا الكون الواسع، وليست ثمة ليلة واحدة مضت عليه دون أن يصادف أشباحًا مختبئة تحت فراشه أو نباتًا قاتًلا يتربص به في شرفته أو سفاحًا يملك خبرة في علم التشريح وهو -للمصادفة- يسكن الشقة المجاورة له، أعزب وحيد كالذئب ضيق الصدر، معتلّ الصحة أبدًا، العجوز رفعت إسماعيل.
إن كل هذا محفوظٌ حدّ الملل ومن لم يربط بين شخصية الطبيب الكاتب والطبيب المخرف هاوي الأشباح لهو جاهل أو هاوٍ مبتدئ حتمًا، لكنني هنا وللمرة الأولى لا أريد الحديث عن رفعت إسماعيل، والذي هو الشخصية الأشهر والأكثر ذيوعًا لكاتبنا الطبيب توفيق.
إني أريد وبملء فاهي، أن أسلط الضوء وأتحدث بتركيز شديد عن البطل الآخر الأقل ذيوعاً وأقل شهرة للكاتب، وهو الشاب الطبيب المصري د.علاء عبد العظيم بطل سلسلة سفاري.
مثلي _ومثل أغلب القراء_ فُتنتُ تمامًا بشخصية رفعت إسماعيل وظننتها خير ما أنتج الكاتب، والشخصية الأقرب إلى شخصه، الدانية من روحه الحقيقية وبوح أفكاره، لكنني اليوم علمت وبمنتهى المفاجأة كم كنت حمقاء حينما اكتفيت بالوقوف على عتبات دنيا ما وراء الطبيعة ولم أطالع أو أتشجع للوثوب إلى عوالم الطبيب الكاتب الأخرى، اليوم فقط أدرك _وبكل ثقة _ أن د.علاء عبدالعظيم هي الشخصية التي تمثل الكاتب من جسد ولحم ودم، والتي هي ينبوع يجري على أرض الأحياء اليوم حاملًا أفكار الرجل الحقيقية وتطلعاته التي لا طالما آمن بتحققها أو بإمكانية ذلك، وخيالاته الأعتى جموحًا في وجود أطباء من كل جنس ولون وديانة يعملون معًا جنبًا إلى جنب، روحًا إلى روح، كتفًا إلى كتف تحت هدير «آلة عملاقة» كما يقول تدعى «سفاري».
في سلسلة سفاري يخلط الكاتب أشخاصًا حقيقيين في عالم الطب، أشخاصًا عظماء نذروا جسدهم الفاني وفكرهم الخالد للعلم وللضعفاء المشتتين الذين همُ في فقر وجهل دائم بأدغال وحرائش أفريقيا، القارة المنكوبة، السوداء اسمًا ومضمونًا، بشخصياته الوهيمة المختلقة.
ولهذا حرص الكاتب أشد الحرص ونوه لمليون مرة على هوامش صفحات سفاري أن كل معلومة ترد في الرواية لهي معلومات حقيقية، لأنه أراد أن تكون الأحداث حقيقة، كما هي في واقع الأمر!
إن د.أحمد خالد توفيق ليس برجل المستحيل، وليس خارق الذكاء ولا يملك معجزة إلهية تمكنه من تفحص الوضع الطبي الدقيق للكاميرون في أفريقيا، لكنه قطعًا باحثٌ مجتهد، علم الكثير وكان مصرًّا حد العناد كشف أوراق علمه للشباب خالي الوفاض فارغ الرأس الذي بالتأكيد لا تعنيه لو استحالت أفريقيا قطعة من جهنم طالما أن قذال النار بعيدًا عن أنفه، لكنه أراده قريبًا أراده مهتمًا أراده واعيًا لما يحدث هنالك، لذا خطّ سلسلة سفاري.
إنني وأنا أطالعها أشعر بغير كثير من العناء أنني هناك وأن كل مشكلة تحدث في كل عدد لهي قصة حقيقية وقعت ذات يوم، وأتحدث بشكل خاص عن العدد الذي يحمل عنوان «العاشر» والذي يقابل فيه د.علاء عبدالعظيم الشخصية الخيالية المختلقة، يقابل شخصًا حقيقيًا طبيبًا بحق مخلصًا مجاهدًا متفان، غير قابل للإفساد كما يقول، يعطونه ثلاثين مليون دولار للإشراف على مشروع قضاء على مرض هناك فينفق كل مليم منها مخلصًا في مشروعه ويقضي شهوره وسنين حياته في غرفة ضيقة لا يوجد بها جهاز تكييف ولا ينام إلا خمس ساعات ولا يملك إلا قميصًا واحدًا، هذه الشخصية الحقيقية المتوفاة حديثًا هي «إبراهيم مالك سامبا».
بعد قراءتي لسفاري شعرت أنني أفهم أبعادًا أرحب تتعلق بالكاتب المخلص الراحل، أظن أنه بكتابته لما وراء الطبيعة قد حقق نقاطًا عدة لطالما شغفته وحلقت في أثير سماء خياله والتهمت وقتًا وقراءات طويلة من عمره ألا وهو علم الميتافيزقيا، والغوامض العديدة والأسرار الرهيبة التي يزخر بها هذا العالم، كل هذا خلطه بخيال لا محدود وشخصية رغبها أن تكون عكس البطل الوسيم الذي ينبهر الجميع بوسامته وتتساقط الفتيات الحسان كالذباب عند قدميه، بطلًا عجوزًا معتلًّا عاشقًا بلا جدوى حيًا بلا مؤنس لكنه صادق القلب نقيه، شفاف العينين ثاقبها، مرتاح الضمير.
ثم إنه لما رغب بتجسيد آماله في عالم الطب الذي يعشقه والذي هو جزء منه بطبيعة عمله، كتب سفاري ومعها نسج شخصية الطبيب الشاب الذي حلم أن يكون -يومًا ما- ابنًا تنجبه مصر ويبرّ أخيرًا بمصريته وعروبته وديانته الإسلامية.
لن أفرغ قط من الشكر للكاتب الراحل وما أحسبني بقادرة يوم على التوقف عن رثائه ورثاء الأشياء العظيمة، الكتابات الزاخرة بالحياة والمعاني المحملة بالأهداف الآخذة بيد الشباب إلى أشياء أفضل وإلى أيام مشرقة أكثر، هذه الأمور لن أكفَّ قط عن الحزن على فقدها بفقدانه للأبد، تغمده الله تعالى بالرحمة وغفر له.