حامد أحمد الشريف
اشترت وردًا أحمر انتقته بعناية، ومعه علبة شوكلاتة فاخرة، كانت قد أبلغت البائع بالعنوان ليوصلها لصاحبتها.
في المساء رنّ جرس المنزل، وثبت من مقعدها لتفتح الباب.
مدّ عامل التوصيل يده مناولًا إيّاها باقة وردٍ وعلبة شوكلاتة.
تناولتها منه بينما كانت تبتسم ابتسامةً عريضة وعادت لمقعدها الوثير.
فتحت علبة الشوكلاتة بسعادة، وضعت قطعةً منها في فمها، وأغمضت عينيها متلذّذةً بطعمها الفاخر، وهي تضمّ باقة الورد إلى صدرها بقوّة.
عائشة عسيري
بعضنا لا يفطن لقيمة الهديّة... وقد لا يهدي من يحبّ رغم مشاعره الجيّاشة، معتقدًا أنّ الإحساس الذي يوصله لمن يحبّ، بالنظرات والكلمات وكافّة الأفعال والأقوال المعبِّرة عن المشاعر، كافيًا... أذكر أنّ والدتي - رحمها الله - كانت تردّد دائمًا مثَلًا مصريًّا يقول: «أنا غنيّة وأحبّ الهديّة»؛ وفي ذلك دلالة على القيمة المعنويّة للهديّة بحيث يفرح بها الغنيّ والفقير، وهو ما يُظهر سبب التباين في موقف رسول الهدى من الأعطيات عند رفضه للصدقة بحكم أنّه - صلّى الله عليه وسلم - وآل البيت مستثنون منها لمكانتهم وقيمتهم ووجوب الإنفاق عليهم، وقبوله الهديّة التي يختلف حكمها تمامًا ...
لعلّ ذلك ما أرادت المؤلّفة إيصاله لنا وهي تهدينا حكاية تلك الفتاة التي قدّمت لنفسها هديّة، اجتهدت في انتقائها، وعاشت الدور تمامًا وهي تستلمها من عامل التوصيل، وتفرح بها، بل تضمّها إلى صدرها وكأنّها تحتضن من تحبّ... فهل كانت تخادع نفسها أم أنّها تعيش حالة انفصام حقيقيّة؟ فتلك الفتاة الكسيرة الحزينة، كما يبدو من سياق الحكاية، ذهبت إلى البائع واشترت باقة الورد والشوكلاتة، وأرشدته إلى العنوان الذي سيوصلها إليه، فبدت وكأنّها ليست الفتاة نفسها التي فرحت بها، ما جعل الموقف يبدو واقعيًّا ويتمتّع بالمصداقيّة.
في ظنّي، إحساسنا بالفقد يجعلنا نفرح بالعطاء دون النظر لمُقدّمه، حتّى لو كان من عند أنفسنا، بل قد نخطّط لذلك، ويحدث كثيرًا أن نجترّ كلمات الثناء والإعجاب من أفواه الآخرين، ونفرح بها، رغم أنّها قيلت غالبًا مداراة لنا، أو للتخلّص من إلحاحنا في طلبها. وقد نسعى في البحث الجادّ عن المشاعر في مَن نحبّ، وإن بكلمة لا يظهرُ صدقها، فالسعي للأمان حاجة إنسانيّة ملحّة. ولقد ورد عن الرسول - عليه الصلاة والسلام - ما يبيّن هذه المعاني، ويحضّ عليها، حين اختزل هذا الموقف في عبارته الجامعة «تهادوا تحابّوا»؛ وكما يُرى في هذه العبارة الجزلة، فإنّ الهدية موجبة للمحبّة، وهي القيمة الإنسانيّة التي نبحث عنها جميعًا ونشعر بالأمان من خلالها.
إنّ هذا الموقف التخيّلي الإبداعي يعيدنا إلى الواقع الذي نعيشه، ويبصِّرنا بحقيقةٍ لطالما سهونا عنها، ويظهر لي أنّها تمثّل عمق هذا النصّ الثريّ، وأعني بذلك ارتباطنا بالآخرين وارتهاننا لهم (في شقّه السيّئ). فهذه الفتاة التي فقدت الاهتمام من محيطها، وعالجت الأمر بالتقمّص وأداء كلّ الأدوار التي كان ينبغي أن ينهض بها غيرها، سلّطت الضوء على إشكاليّة حقيقيّة نعيشها عند ربط حياتنا بالآخرين ومنحهم الضوء الأخضر لتسييرها كيفما يشاؤون، في وقت كان علينا أن نفطن إلى الضرر الكبير الذي نجنيه من هذا الفعل، حتّى وإن كانوا، وقت اتّخاذنا القرار، يُغرقوننا في مشاعرهم العاصفة وقربهم الشديد منّا، إذ إنّ البشر - على عمومهم - لا يمكن التنبّؤ بما يفعلون، وقد يخذلونك في أكثر أوقات حاجتك لهم، وهم متلوّنون متغيّرون بطبعهم، وتحكم تصرّفاتهم وانفعالاتهم بالدرجة الأولى مصالحهم الشخصيّة؛ حتّى في محبّتهم للآخرين، يفعلون ذلك استجابة لمشاعرهم هم، وإرضاءً لها، وإن استفاد الآخرون منها. وفي حال تغيرّت تلك المشاعر، لن يلتفتوا إلى من أحبّوا، ولن يُرضوا في هذه الحالة غير مشاعرهم الكارهة، فيدفع المستجير بهم الثمن باهظًا في كلا الحالتين، عندما لا يكون له الخيرة من أمره؛ وهو ما يجعل الارتباط المطلق بالبشر، من دون قيود ومحدّدات، مضيعة للوقت، وقتلًا بطيئًا لأنفسنا.
بينما العاقل هو من يمتلك زمام أمره، ويقوده بيده، ويكون اعتماده بالدرجة الأولى على المكوّنات المادّيّة التي يمكن وصفها بالإيجابيّة في كلّ حالاتها، فهي لن تخذله أبدًا؛ من ذلك، على سبيل المثال، الكتاب الذي يعدّ شريكًا إيجابيًّا، لا يتعامل معك بسلبيّة مهما كانت أحواله وأحوالك، فهو يأتيك طائعًا إن أردته، ويبقى في انتظارك إن تركته، ولا يتبرّم منك مهما فعلت به، ولا يشغلك بسماع عتابه أو اجترار عتابك، ويُنصت إليك مهما كان تأفّفك منه، ولن يغضب أو يُغضب الجميع منك مهما فعلتَ به، ولو مزّقته شرّ ممزّق، حتّى وإن لم تُبقِ منه غير ورقة واحدة بعد انتزاعك لأحشائه، سيبقى وفيًّا لك ما امتدّ به العمر؛ لن يغادرك إلّا بإرادتك، وهو - يقينًا - يقبل بكلّ ردّات أفعالك مه ما بلغ شطحها وانفلاتها وتعدّيها، ولا يخبر بها أحدًا أبدًا، وهذا ما عبّر عنه أبو الطيّب المتنبّي في بيته الشهير:
أَعَزُّ مَكانٍ في الدُنى سَرجُ سابِحٍ
وَخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كِتابُ
هذا البيت الذي أشار بشكلٍ صريح إلى الفكرة التي حملها النصّ الذي نحن بصدد الحديث عنه، وهو يعبّر بكلّ وضوح عن حاجتنا الماسّة للحرّيّة، والانكفاء على النفس، وعدم الارتباط بالآخرين أو رهن مصيرنا بمصيرهم؛ بداية، في حديث الشاعر عن المكان الذي يعتبره عزيزًا على نفسه، ويراه الأفضل في هذه الدنيا، ولم يكن هذا المكان إلّا صهوة حصان يمتطيه ويجلس على سرجه، ويطلق العنان له ليبتعد به عن الجميع، ممسكًا بزمامه، يوجّهه حيث يشاء.
وللدلالة على المعنى الذي يعنيه الشاعر، والذي فيه إشارة واضحة لا لبس فيها إلى الانعتاق من المحيط البشري، إتيانه في عجُز البيت بما يؤكّد هذا المعنى، عند وصفه للكتاب بأنّه خير جليس على مرّ الأزمان، واكتفائه به دون الأصحاب والخلّان من بني البشر. ولعلّ ما أكّد هذا المعنى، عدم الارتباط الظاهر بين صهوة حصان يجري في الفلوات مبتعدًا عن الجميع، وبين مجالسة الكتاب الذي عادة ما يرتبط بالسكينة والهدوء والبقاء في مكان واحد وعدم الإتيان بأيّ حركة؛ ممّا يشير، بما لا يدعو مجالًا للشكّ، إلى أنّ الربط كان في فكرة التخلّص من البشر، وعدم الارتهان لقراراتهم، وهو ما يدعونا إلى التيقّن بأنّ المتنبّي إنّما كان يريد من خلال هذا البيت الإشارة إلى الفكرة التي نتحدّث عنها وأتى بها النصّ، والتي تتلخّص في حاجتنا الماسّة إلى الابتعاد عن البشر الذين يلزمونك بالتعامل معهم في كلّ أحوالهم، السلبيّة والإيجابيّة، ودفع ثمن بعض القرارات التي لا ذنب لك فيها؛ تمامًا كتلك الفتاة التي افتقدت التقدير من الآخرين، فاختارت أن تقدّر نفسها.
وكأنّي أوافقها على ما قالته بطريقة غير مباشرة، بل أذهب إلى أبعد من ذلك، فأطبّق ما قاله المتنبّي عند غضبه من كافور الأخشيدي، وخروجه خفية من مصر مغاضبًا، وأختارُ في مصاحباتي من يمنحونني المشاركة الإيجابيّة فقط، ولا يلزمونني بأيّ مشاركة سلبيّة، ويأتي الكتاب في مقدّمة ما أختاره؛ ويمكن القياس على ذلك في تحديد من نصاحب، على أن نحرص تمامًا في علاقاتنا بالآخرين أن يكون اللجام بأيدينا، لا نتخلّى عنه مطلقًا، وقتها نستطيع أن نصاحب من نشاء طالما لم ترتبط مصائرنا بهم، بدل أن يتسبّبوا لنا بالأذى ونحن أشدّ ما نكون تعلّقًا بهم..
في النهاية، إن فعلنا ذلك، لن نكون بحاجة لأن نعيش حالة الفصام التي عاشتها تلك السيدة التي روت لنا المؤلّفة حكايتها التخيّليّة، بمفارقة نهايتها الجميلة وهي تدفع ثمن رهن مصيرها بالآخرين؛ كما ينبغي علينا شكر الكاتبة التي أهدتنا نصًّا بسيطًا وجميلًا يحمل معانيَ جميلة نحن بأمسّ الحاجة إليها في حياة أفقدتنا اهتمامنا ببعضنا، وجعلت محبّتنا للآخرين وبالًا علينا.