أحمد بن عبدالرحمن السبيهين
عندما خسر (ستانلي بيكر)؛ أحد رجال المال والأعمال في (نيويورك)، كلّ ثروته في الانهيار المالي الذي سبق الكساد العظيم في الثلاثينيات، تحطّمت معنوياته بشكل كامل، ومع أن بعض أصدقائه الذين استطاعوا الوقوف في وجه العاصفة عرضوا مساعدتهم له بالمشاركة في مشروع تجاري جديد، إلا أنه رفض وأخبرهم بأنه مريض، وهو في الحقيقة يبدو كذلك.
كانت زوجته (أليس) امرأة مُخلصة، وكانت تدّخر بضع مئات من الدولارات في حسابها البنكي، وبهذا المبلغ استطاعت اصطحاب زوجها إلى منتجع هاديء في منطقة (الينابيع الشرقية) في ولاية (فلوريدا)، حيث استأجرت كوخاً صغيراً في غابات الصنوبر، مُطلّاً على بحيرة حالمة. كانت المنطقة بِكراً بشكل استثنائي وغنيّة بالجَمال.. حيث الطيور تشدو في أعالي أشجار السرو ذات السيقان المستقيمة الشاهقة، وكان الطريق المُحاذي لكوخهم ينعطف كالشريط تاركاً أثراً مزدوجاً من الخطوط الترابية.
كان أقرب جيرانهم يُدعى (فرانك سيلرز)، يعمل مديراً لمصنع تعبئة خُضار الكرَفس، أما باقي الجيران فقد كانوا من قاطنيّ الغابات الخلفية الذين يُطلق عليهم اسم (الكراكرز)، وهم طائفة عنصرية من السُكّان البِيض الفقراء الذين يتواجدون في الولايات الجنوبية.
في هذا المكان المُنعزل والبيئة الريفية المُسالمة، تحسّنت صحّة (ستانلي) وتجاوب معها نشاطه البدني، ولكن مشكلته الرئيسية كانت معنويّة، فقد أُصيب بصدمة كبيرة حين فشلت أعماله التجارية وفقد كلّ إحساس بالأمان، وأصبح الخوف مُلازماً له في الليل والنهار.
كان يقضي أغلب ساعات يقظته في التنزّه في بستان كثيف من أشجار السرو المُحاذية للبحيرة، حيث تنحدر ضِفافها بشدّة ويظهر الماء العميق بلونه الكهرماني الرائع.. كان يجلس هناك مُحدّقاً في المياه المُتماوجة ومُنتشياً بتلك المناظر البديعة.
وفي ظهيرة أحد الأيام، كان (ستانلي) عائداً من نزهته إلى المنزل، فرأى غلامين يتعاركان في الطريق، عرف الأصغر بينهما وكان ابن جاره (فرانك)، أما الأكبر فقد كان أحد أبناء (الكراكرز) وكان يكيل اللكمات العنيفة للغلام الصغير. تدخّل (ستانلي) لوقف العراك ودفع الغلام الكبير بقوّة سقط على إثرها مُتمدّداً على قارعة الطريق، بعد أن اصطدمت جبهته بعُنف بجذر إحدى الأشجار الضخمة، فتدفّق الدم من أنفه بغزارة.. قفز الفتى قائماً وهو يعوي، وبينما كان يترنّح مُتراجعاً صاح بالسيد (بيكر) قائلاً: «سترى كيف يُجبرك أبي على دفع ثمن ما فعلته، أيها الشمالي الحقير».
انطلق ابن جاره مسرعاً إلى منزل والديه، وأخذ (ستانلي) يخطو وحيداً، بينما أضاف تهديد فتى (الكراكرز) إلى أفكاره الكئيبة عبئاً جديداً.
بعد ظُهر ذلك اليوم، وبينما كانت (أليس) تتسوّق في القرية، حضر الفتى العنيف إلى كوخ (ستانلي)، فسأله قائلاً: «ماذا تريد»؟
فردّ الفتى: «يقول لك أبي بأن عليك الرحيل من البلدة قبل غروب شمس الغدّ، وإلا فسيُطلق عليك النار».
واندفع مُكمّلاً تحذيره: «قال أبي إنه لا يُمكن لأيّ شخص أن يضرب ابنه ويُدميه، دون أن يدفع دماً مُقابل ذلك.. إن أبي هو (جيد كولبي) وتصويبه بالبندقيّة لا يُخطيء».
جرى الفتى بعد ذلك عائداً بسُرعة، واختفى في غابة البلّوط.
ضحك (ستانلي)فقد كان ماحدث سخيفاً، وفكّر في زوجته عندما تعود، وأن عليها أن تستمع لهذا الإنذار الذي يبعث على الضحك، وهو يعرف أن الناس في الجوار سيدركون قريباً أن تهديد (جيد كولبي) مجرّد إشاعة عابرة.