د.حسن مشهور
وطن لدينا -في صبانا- نتاج مطالعاتنا لأدبيات تراثنا الثقافي العربي؛ بأن الأدب هو تلك السلطة الناعمة التي تستطيع تغيير الكثير من قواعد اللعبة الاجتماعية. وليس الأمر حكرًا بواحد من تلك الأنواع الأجناسية للأدب، فلكل نوع أدبي حضوره الفاعل الذي ربما قد يختلف أو فلنقل يتغير قليلاً معامل تأثيره وفقًا لتغير ذائقة المكون البنيوي للمجتمع، كما هو حاصل الآن في مجتماعتنا الحضارية العربية التي غدت تحبذ الرواية وتنفعل بها وتتفاعل معها، أكثر من الشعر ذاته.
قرأنا بأن الشعر العربي قد زوج العوانس كما جرى في قصة الشاعر الجاهلي أوس بن حجر مع بنات فضالة بن كلدة، بعد أن كسرت فخذه، فساهمن مع أبيهن في تطبيبه حتى تعافى، وكانت صغراهن حليمة توليه جل رعايتها، فكان هو القائل:
خُذِلتُ عَلى لَيلَةٍ ساهِرَه
بِصَحراءِ شَرجٍ إِلى ناظِرَه
تُزادُ لَيالِيَّ في طولِها
فَلَيسَت بِطَلقٍ وَلا ساكِرَه
وأفْهِمْنا بأن الشعر قد غير أطراف المعادلة الاجتماعية في زمنية جاهلية بعينها، فأعلى من شأن قبيلة وعزز من القيمة الاجتماعية لها وجعل من اسمها الذي كان يعد رمزية للدونية والانتقاص، ليكون تعبيرا عن القيمة والوجود الاجتماعي البارز، كما جرى في قصة بنو حنظلة بن قريع بن عوف بن كعب، الذين كانوا يلقبون ببني أنف الناقة ويسبون بذلك اللقب.
وذلك في قول الشاعر الحطيئة فيهم:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
ومن يسويَّ بأنف الناقة الذنبا
هذا الدور الاجتماعي المتزايد لأثر الأدب في تاريخ الشعوب العربية، قد تناقص تدريجيا حتى كاد أن يُمحَى، وصاحبة نكوص لأثر الشعر وقدرته على التأثير والتغيير على كافة المستويات وخاصة منها السياسي، ولهذا نجد في الفترة المتأخرة أو كما يسميها المؤرخون بالفترة الثانية من العصر العباسي، إن الفيلسوف والمتصوف أبوحيان التوحيدي يعمد لحرق كتبه بعد أن تجاوز التسعين من عمره.
ونجد الثائر اليمني في خمسينيات القرن الميلادي المنصرم الشاعر محمد محمود الزبيري الملقب بأبو الأحرار يصيح في إحدى قصائده بأعلى صوته محذرًا من التداعيات السلبية لنقد حكم الإمامية باليمن الذي كان على رأسه حينذاك أحمد بن حميد الدين، قائلا:
حذار الخطابة إن السجون
تهش إليك بترحابها
لاحقا ومع التتالي الحضاري العالمي، فقد ورث فن المقالة، تلك القيمة التأثيرية للأجناس الأدبية الأخرى، وتحديدا منها فنّي الشعر و الخطابة. فأصبح للمقال الصحفي أو فلنقل للصحافة الورقية على عمومها تلك السلطة التي وصفت لغويا؛ بالسلطة الرابعة، إلى جانب الأنواع الأخرى للإعلام من مرئي ومسموع.
والآن ومع قدوم الألفية الثالثة وذلك الحضور الطاغي للمنجز التكنولوجي في مجال الاتصال وتقنية المعلومات، فقد شهد عالمنا العربي تغييرًا ملحوضًا في نوع وشكل أدوات النقد والتعبير، فنكصت سلطة الإعلام الورقي وغيره من الأنواع التقليدية لتحل سلطة مواقع التواصل الاجتماعي، فانتقلت أجناس أدبية بعينها من شعر وقصة ورواية ومقال لتأخذ مكانها في ايقونات التعبير الرقمية، فاستعادت بعض الزخم وتصاعد كذلك معاملها التأثيري مجددا، إلا إن جنسا تعبيريا جديدا قد تولد عن هذه الثورية التكنولوجية، ويندرج في مربع السرد ويدعوه البعض بالتغريدة أو «التويتة»، حيث قد أضحى هو سيد المشهد التعبيري وخطف سلطة الأثر والتغيير من الشعر وأجناس التعبير الأدبية الأخرى، إلا إذا أعدينا هذه التغريدة، هي نوع أدبي جديد ورضينا بهكذا اعتقاد.
وفي تقديري بأن عملية النشر الأدبي الإلكتروني قد انتعشت في مرحلة تفشي جائحة فايروس كوفيد-19، إذ إن عملية الحجر الصحي التي فرضتها العديد من دول العالم، ومنها دولنا العربية قد أدت لانتعاش عمليات التعبير الأدبي التي كانت أيقونات التعبير الإلكتروني هي مطيتها للوصول إلى القارئ الهدف في مختلف أصقاع العالم.
ومستقبلًا قد يؤدي حضور التقانة الإلكترونية وأوعيتها التعبيرية في حياتنا اليومية لؤد الكتاب الورقي شيئًا فشيئًا، حتى يغدو شيئًا من الماضي، خاصة مع ارتفاع تكلفة عمليات الطباعة والنشر والتوزيع التي تشكل عبئًا على كاهل أدبائنا وأديباتنا من الناشئة.