د. شاهر النهاري
دون تحسر على روح الماضي، ولكن من باب أن علينا ذكر محاسنه، وأن نتغاضى عما كان يزعج بعضنا فيه، ومهما أطلقنا أجنحة فراشات الأمنيات إلا أننا لن نستطيع مسح الحاضر، ولا العودة جسدياً للماضي، ولو لدقائق، وطبعاً فكلامي هنا يخص وقتنا الحالي، وقبل أن يتبدل الحال، وتفيض علينا تقنيات العلم بقدرة عودة افتراضية متماهية قد تصيبنا بالفصام والخبل.
لقد عشت جل عمري في ربوع الرياض، ولكني جربت غضاضة سنوات من طفولتي الأولى في بلدة الضباب أبها، حيث الطبيعة البكر، والوادي والغدران والحقول والبهم والمراعي تجبر كل من له قلب أن يعشق، وأن يصبح طريح الذكريات، وهذا قبل عدد من العقود تراكمت، ولكني أتذكر جمال وقرب ومشاعر ما كان يحدث حينها، كون كل شيء فيها مختلفاً عما نجد أنفسنا فيه اليوم، والمقارنات تجارب شخصية، لا بد أن تختلف بين كبد وكبد، وقد يظلم أحد الزمنين، حين الجزم بأيهما الأفضل.
وهذا شأن أعيشه مع الأحداث كلما سرحت غنيمات خيالي، وعقدت المقارنات، ففي دخول موسم رمضان لهذا العام، وجدت ذاكرتي القديمة تستقوي على ذاكرتي الحالية وتدخلني في ألبومات صور خيال زالت ألوانها، وحي «البديع» وبيوته الطينية كثيرة «الصوامع» و»الرقف»، وتذكرني بطعم أشياء كنت أستحليها، بالدنو والندرة، مهما حرصنا على البحث عنها، ومهما استغرب منا حتى أبنائنا حينما نُغمض أعيننا، بحنين للماضي، بل إن البعض ينظر إلى البريق الذي نتعشق روعته، ويضحك باستغراب، ويتساءل: كيف كنتم تتحملون العيش بين الأبيض والأسود، وباعتقاد طفولي أننا لم نكن ننعم بألوان السعادة.
صدقوني لقد كنا نرى أكثر من ألوان الطيف، وكنا نسمع دبيب النمل، ونتذوق اللقمة بغبطة وتلذذ مجنونة، ونحيا جيرة ممتدة ليس فقط لسابع جار، ولكن لأبعد من سيل الوادي، وأعلى من الجبل، ولما خلف الحقول، وبمشاعر طفل ومهما تصاحب مع الشقاوة يجد فيها من يوقفه ويذكره الأصول، ليتناسب مع أخلاقيات وسمعة أهله، الطيبين، فكل الأمهات أمهاتنا، وكل الآباء لهم قدر أبينا، وقليلة هي أسرار الطفل عاشق دروب أبها الصغيرة الطينية، وسط ملاعب كنا نجهد أنفسنا بين مغالبة طينها، وملابس لا تجد مساحيق الغسيل، نتسابق نتصارع، نتصادق ونعادي من لا يمتلك كامل أدبه، وقد نشتكي الخارج من بين حدود العشرة لأهله، وكم نظل نختار الصحبة، التي تُشَرِف، والتي تتقارب معنا لدرجة الأخ والأخت.
جيرة بها الطيبة والعنفوان، والحنان، ومعاملة الصغير كما الكبير، جيرة تسكن ذات الأجواء وأقربها، وتشارك في صنع الخير، وفي التعاون رغم قلة ذات اليد، فكانت الأم تنادي على الطفل قبل الغروب، وهو يلهو وسط غبار صحبته، وتحمله مسؤولية توصيل جزءٍ مما صنعته من مأكولات رمضانية، لبعض الجيرة، يدق الباب، ويُستقبل ببسمة الضياء، ولا يعود إلا وهو يحمل بين يديه بعض ما حضروا للإفطار، «رواني»، سمبوسة، «تطلي»، خبزة بر، خبزة شعير، إيدامات، فواكه طازجة، خشاف منقوع الزبيب، وغيرها مما ينعش صوم اليوم، ويشعر الطفل بأنه يحمل بين يديه تحديات فائقة تهدد صيامه، الذي ربما يدعيه أمام أصحابه، وربما يجبره الحلق الناشف، والبطن الخاوي منذ السحور ليجرب الاختباء والتذوق.
أم أخرى هناك تحتاج ذرة ملح، أو أعواد كبريت، أو سمن، أو غثة من القهوة أو الشاي، فتنفض ما علق بثوب مرسولها وتوصيه وهي توجهه لبيت أحد الجيرة، بأن يسلم على صاحبة البيت، وأن يقول لها: أمي تسلم عليكم، وتقول لكم أعطونا قليل من..
مشاعر أسرة عظيمة جميلة، فيجد الطفل أن من ذهب إليها أم أخرى ترحب به، وتنشده عن صحة الجميع، وتطمئن على أحواله، وتحمله برسالة جديدة منها، حيث لا هاتف، ولا مواقع تواصل، وقد تخبره بأنها ستقوم بزيارة أهله بعد صلاة العشاء، وكم يسعد بتلك السمرة الرمضانية، وهو يدرك أن الضيف والمضيفين لن يتوانوا عن تقديم أفضل الأطعمة، والأشربة، وأنه يستطيع وهو مسدوح على ركبة أحد الكبار أن يستمتع بسماع ما يحدث في عموم الجيرة، فمن تمت خطبتها، ومن اشترت شيئاً جديداً لبيتها، ومن سافر، ومن عاد محملاً بالهدايا، ومن مرض، ومن تولى وظيفة، ومن تعسكر، ومن عزم من، ومن التي تبحث عن عروس لابنها؟
كل تلك الأخبار لا تحتاج من الطفل بعد أن يمتلئ بطنه، إلا أن يغلق عينيه، ويتخيل كل تلك الحكاوي، في زمن ما قبل الإذاعة والتليفزيون، ولكنه بمشاعره قادر على التخيل، ودخول خضم الأحلام والتطلعات بنفسه، فلا يخرجه من قصور السلاطين، إلا ضحكات تتردد في السهرة، وضحك ومزاح، وفواصل تقليد و»عِجب»، بين القلوب الصافية.
النوم يظل مطلوباً، بعد يوم من الشقاوة، وإنهاك اللعب، ومن التوجه للسوق بطلب من أهله، وقد ثبتوا في جيبه غير المقطوع ثمن ما يريدون من البياعين، المعروفين للعائلة، فلا يشتري إلا من عند الجزار العم فلان، المعروف بأنه لا يخل في الوزن، وأنه يهاديهم بأجمل وألذ قطع من الخروف، ولا يتبضع إلا من عند الشايب صاحب الدكان القريب، الذي يوفي الكيل، ويزيد عليها قطعة حلوى ليد الطفل، والذي يحتفظ بها حتى تنتهي مهام اليوم الرمضاني.
يقترب الغروب ويحضر كل طفل بحصاته المستديرة المخرومة، ومسماره الضخم، وأعواد الكبريت يسحق رؤوسها في فتحة الحصاة، ثم يطرق المسمار لتصدر طرقعة الصوت، في منافسة لأقرانه حين يسمعون صوت المدفع ينطلق من قمة جبل شدا، أو يرى بعينيه مشلح المؤذن، وهو يعتلي المئذنة القريبة ليصدح بالآذان وينبه عموم سكان الحي بفك الريق.
لا أريد أن أزين ولا أن أعظم جماليات الجيرة القديمة، والتي نفتقدها نحن من جربناها، وفقدناها في مدننا الزجاجية، طويلة الأسوار، ساخنة خطوط الإسفلت، والمسكونة بالأغراب، فلا نعرف حتى أقربهم لنا، ولا نميز إلا مركبات من يقومون بتوصيل الأطعمة من المطاعم.
صغار الحي كانوا يتجمعون بعد التراويح، ومن دخلوا المدارس لهم القدرة على تنويع وتوزيع الأدوار على البقية، من سباق الحافين، وتمثيل، ولعب «القمشة»، وتنافس «القب»، وغيرها مما يحلو التجمع حوله في ليالي رمضان حول أتريك الشارع، وبجوار رجل العسة، بحماس طفولي.
النوم حينما يتعمق سلطانه يصعب الصحيان منه قرب الفجر، وحتى لو دق المُسَحِّر على النوافذ، وحتى لو رفع صوته في السبيل ينادي بأسماء أهل البيوت، وحتى لو بث الرعب عند الصغار، ولكن روائح طعام السحور تغري مرات، وطبخة ساخنة تفتح الأنف، وتحرك الفكين، حتى وإن ظلت إحدى العينين مغمضة بالنعاس، وصلاة الفجر، قبل العودة لنوم لا يطول، فللشارع الرمضاني وهج ونداء، وللحياة حماس وطموح.
أعود وأكرر بأني لا أقارن بين رمضان الأمس، وبين النوم والتقلب أمام الشاشات المستديمة الأصوات والصور، حتى يقترب نداء المغرب في أغلب بيوتنا الحالية.