د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
هذا كتاب للنحوي القدير الأستاذ الدكتور/ محمد عبدو فلفل عنوانه الكامل (المعنى في النحو العربي بين الوفاء لوظيفة اللغة وإكراهات الصنعة النحوية) نشرته الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2021م، والكتاب من القطع الصغير يقع في 120 صفحة، وهو على صغره مكتنز فكرًا وعلمًا، والمؤلف من القلائل الذين زويت لهم المعارف اللسانية الحديثة والقديمة، وسخر معرفته في معالجته هذا الموضوع الدقيق فوفق في ذلك توفيقًا.
وبدأ بالإشارة إلى مسألتين أولاهما أن اللغة على تعدد وظائفها ليست الوسيلة العلامية المثالية في التعبير عما يراد منها أن تعبر عنه، وأخراهما هي إشكالية المعنى التي هي غموض مفهومه لدى المعنيين به وتعذر إخضاعه لضوابط علمية جامعة مانعة؛ مما حمل بعض النظريات اللسانية الحديثة على أن ترجئ دراسته في معالجتها لمسألة اللغة.
وتحت عنوان «اللغة: بين تعدد الوظائف ومحدودية الأداء» يذكر أنه لم يختلف جمهور المعنيين في تعدد وظائف اللغة بل في التمييز بين الأساسي والثانوي، أو في الأهم والأقل أهمية من هذه الوظائف، على أن أكثر وظيفتين أهمية للغة هما الوظيفة الرمزية أو التواصلية الفكرية العقلية، والوظيفة الانفعالية العاطفية النفسية، ويذكر في هذا السياق جملة أقوال منها قول الغزالي إن للأشياء وجودًا في الأعيان ووجودًا في الأذهان ووجودًا في اللسان، أما الوجود في الأعيان فهو الوجود الأصلي الحقيقي، وأما الوجود في الأذهان فهو الوجود العلمي الصوري، وأما الوجود في اللسان فهو الوجود اللفظي الدليلي، ويبين محدودية أداء اللغة جملة أمور:
1- أن اللغة لا تقوم بمهامها التواصلية ما لم تستعن بمعطيات غير لغوية كلغة الجسد وبالسياق غير اللغوي، مثال ذلك أن الجملتين: (فلسطين دولة محتلة/ إسرائيل دولة محتلة) فيهما كلمة (محتلة) وهي مشترك لفظي لا يتبين اختلافهما في المعنى إلا بمعرفة تاريخية سياسية فمن لا يعرف المشكلة الفلسطينية لن يعرف أن محتلة معها اسم مفعول وأنها مع إسرائيل اسم فاعل، بل إن من لا يعرف ذلك لن يستطيع أن يحلل الكلمتين تحليلًا صرفيًّا.
2-اختلافاتنا العلمية من اختلاف معاني الكلمات أو فهم المعاني؛ لأن التراكيب قد تكون احتمالية أو قطعية مثل جملة (عندي حُبُّ عسل) قد تدل على أن لديك (حبًّا) يستعمل للعسل، وقد تعني أنه حُبٌّ مليء بالعسل، بخلاف عندي حبٌّ عسلًا فهذه لا تعنى سوى الحب المليء بالعسل.
3- لسنا أحرارًا كل الحرية في استعمال اللغة؛ فهي ملك لمجتمعها، وتاريخ مفرداتها حافل بدلالات متعددة تارة ومتباينة تارة أخرى، وكلٌّ محكوم بتجربته اللغوية؛ فقد يقصد المتكلم ما لا يفهمه السامع، فمهما نتحكم باللغة فقد تتحكم بنا ببعدها الاجتماعي.
4- تباين المرسلِ والمتلقي قدراتِهما اللغوية والذهنية والثقافية والفكرية؛ ولذا قد لا يتطابق معنى الخطاب عند المتكلم والمتلقي. فاللبس قد يكون من اللغة أو من مستعمليها أو من المعنى نفسه «فهو مفهوم غامض، ومعقد ومراوغ، لذا يتمرد على التحديد والضبط والتقنين بالمفهومات العلمية للمصطلحات»(1).
وينال هذا المعنى غموضَ مفهومه وتمردَ تحديده وضبطه مزيدٌ من البسط تحت عنوان «المعنى غموض في المفهوم وتمرد على الضبط»، فيذكر أنه لم يحظ المعنى عند المهتمين به باتفاق في مفهومه أو تعريفه؛ إذ تعدد تعريفه بتعدد العلوم أنفسها، ولذا تعثرت الإجابة عن سؤال المعنى؛ فهي تقتضي اشتراك جملة من العلوم الإنسانة، الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها مما عالج ما يتصل بالمعنى، بل المناهج التي يفترض أن تعالج مشكلة المعنى نالها الشك وفوض كل علم غيره في إنجاز ذلك، لأن المعاني مفاهيم مجردة يعسر في كثير من الأحيان ضبطها أو تقييدها، فتسميات البشر للأفكار الشديدة التعقيد كالألفاظ الأخلاقية يندر اتفاق اثنين على معناها، بل إن الفكرة التي في ذهن إنسان ما اليوم قد يكون لها معنى يختلف عن معناها في الأمس أو في الغد.
إن غموض مفهوم المعنى وتمرده على التقنين والضبط أجاء مناهج الدرس اللساني الحديث إلى اختلاف العناية بدرس المعنى؛ فمنها ما أقصته ومنها ما أدرجته في مجال درسها. إذ تخلت توليدية تشومسكي في بدايتها عن درس المعنى وأرجأ بلومفيلد دراسته حتى تصبح العلوم قادرة على ذلك.
وسيناقش المؤلف القدير منزلة المعنى في النحو العربي في ضوء مقولتي الغموض والتعقيد اللتين تحولان دون درس المعنى درسًا علميًّا موضوعيًّا متصفًا بالشمول وبإمكان ضبطه وقياسه وترميزه، قال «وإذا أدركنا أن النحو لا يمثل اللغة حقيقة، بل يمثل تصور النحاة لها أدركنا أن المعنى في مناهج الدرس النحوي قد يتعرض لانكسارين(2): لغوي ناجم عن أن اللغة لا تصور الأشياء، بل تصور تصورنا لها، ونحوي ناجم عن أن النحو لا يمثل اللغة بل يمثل تصور النحاة لها»(3).
**__**__**__**__**__**__**
(1) محمد عبدو فلفل، المعنى في النحو العربي، ص18.
(2) الانكسار مصطلح فيزيائي يعبر به عن تغير اتجاه مسار الضوء في الأوساط المختلفة كالماء والهواء وهذا يشاهد في منظر القلم الموضوع في كأس ماء فيبدو للناظر مكسورًا ما لم ينظر بزاوية مستقيمة وهذا ما تفعله الطيور التي تقتنص الأسماك فهي تنقض عليها من الأعلى بخط مستقيم يكفل لها الإصابة.
(3) محمد عبدو فلفل، المعنى في النحو العربي، ص23 .