كان ولا يزال يحمل ذكرياتهِ على ظهره، غاصت قدماه في مغريات الحياة، حصدت الأيام أجمل سنوات العمر، رقص في حانة الغربة حد الاروتاء، عاد من العاصفة، ارتمى في أحضان الأيام الخوالي على أمل أن يعود إلى سابق عهدهِ.
تناول الأدوية التي صرفت له من قبل الطبيب النفسي، طوى جسده في صفحة غرفته الباردة.
أعد فراش النوم، أغلق النافذة ثم أوقد المدفأة، وضع عليها البطانية حتى تدفأ قليلاً، تمدد جسده الضامر فوق (الطراحة) وتوسد يده، عانق النوم عينيه،
أفاق في بيتهم القديم، توجه إلى المكان الذي كان يقيد أخاه بجواره، وجده حجارة مترامية فوق بعضها، سمع أصواتًا كثيرة تنادي عليه، هبَّ مسرعاً إليهم، استمع لشكواهم بروح تتخطفها الطيور الجارحة، خف إلى أخيهِ فوجده غارقًا في دمهِ.
لا زال صراخ الرجال في أذنهِ، قيد أَخيك (الخَبل) بالحبل أو قيدنا قدميه بالحديد،
علم أن أخاه قد ارتكب حماقة لا تغتفر، فقد أطلق سراح غنم جارهم فأكلتها الكلاب، خلع ملابسه دون خجل وتبول في البئر أمام الجميع، جمع الكثير من الطوب والحصى، أخذ يرمي كل مَن يمر بجواره ومن يصفه بالخبل ولد الخبل.
قاده إلى زوجته وهو يعلم جيداً أنها لن تقبل بوجوده، سمعه يقول أكلت حقي، دفنت أمي في التراب، تركتني أهيم مثل الدواب، ترك يده، أخذ يركض إلى أن وصل إلى المقبرة.
كان يعرف جيداً أين دفنت أمهِ، رقد على قبرها، ذَكًرها أَنُهُ لا يزال قطيعًا، اقترب منه أخوه، أبعد يده عنه ثم أخذ يَحْثو التراب على رأسهِ، أخذ يقول: سأموت بلا ولد ولكن الناس لن تنسى قصة القطيع الذي حرمه أخوه حقه في الحياة.
دفنه ونسي أن يفك السلاسل من قدميه، طال جسمه العلة وراء العلة، هجرته زوجتهِ وأولاده، ظل وحيدًا يأكل ما يرسله له الجيران من صدقات،
أطفأ سراج الغرفة، خرجت جثته بعدما فاحت رائحة جسدهِ، أبلغ الجيران الشرطة، حضروا وكسروا باب الغرفة فوجدوه ميتاً، تواصل مع قسم الطوارئ في المستشفى، حضرت سيارة الإسعاف وأخذت ما تبقى منه في أكياس، نقلته إلى المشرحة بعد مرور شهر على موته، دفن وحيدًا في مقبرة النسيان!
** **
- مسعدة اليامي